1

إنها سوراقيا… أيها الغبي

إنها سوراقيا… أيها الغبي

It is the economy, stupid!

أطلق هذه العبارة، وترجمتها العربية “إنه الاقتصاد أيها الغبي”، الأميركي جيمس كارفيل أحد المسؤولين في حملة بيل كلينتون الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية سنة 1992، والتي فاز فيها على الرئيس الأسبق جورج بوش الأب.

ونحن نستعير فحوى تلك العبارة في محاولة لفهم جانب حيوي مما يجري بين الولايات المتحدة وإيران، خصوصاً التطورات الدموية خلال الأشهر القليلة الماضية، فنقول “إنها سوراقيا… أيها الغبي”! وبكلام أكثر وضوحاً: إنها معركة العراق من حيث هو واسطة العقد في “محور المقاومة” الذي راحت ملامحه الاستراتيجية تتكون وتترسخ على امتداد منطقة الهلال السوري الخصيب.

المواجهة بين أميركا وإيران مفتوحة زمنياً ومتشعبة موضوعياً منذ انتصار الثورة الإسلامية سنة 1979. وطيلة العقود الأربعة الماضية كان العراق في عين العاصفة، سواء عند اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، أو أثناء غزو الكويت وما تلاها من حرب الخليج الأولى وصولاً إلى الغزو الأميركي – البريطاني سنة 2003. وفي جميع هذه الحالات ظلت طهران تراقب وتتحفز.

سقط الحكم البعثي في العراق بسهولة نسبية أمام آلة الدمار الأميركية – البريطانية. لكن العراقيين لم يتقبلوا الواقع الجديد، فاندلعت المقاومة الفاعلة وإن شابتها ممارسات مقيتة تقوم على إيديولوجيات تكفيرية متطرفة. وكانت طهران تدعم بعض أطراف المقاومة إيماناً منها بضرورة خلخلة الوجود الأميركي في المنطقة لأنه يشكل – من وجهة نظرها – تهديداً مباشراً للثورة الإسلامية، وأيضاً للمدى الإيراني الاستراتيجي الحيوي.

بعد استقرار الأوضاع العراقية إلى حد ما، نشأت حالة مساكنة غير معلنة بين النفوذين الأميركي والإيراني في العراق. وظلت المنافسة بينهما محكومة باعتبارات محلية وإقليمية، سقفها الأعلى عدم المواجهة العسكرية المباشرة لما يعنيه ذلك من تدهور خطير في منطقة الخليج العربي ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة إلى معظم دول العالم. ومع ذلك فإن المناوشات بين “وكلاء” الطرفين يمكن تحملها إذا لم تتجاوز الخطوط الحمر.

حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه، وهو الذي بنى جزءاً من حملته الانتخابية على قاعدة التصدي لإيران، حافظ على تلك المساكنة لأكثر من سنتين على الرغم من تخليه عن الاتفاق النووي وإعادة فرض عقوبات على طهران هي الأقسى من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية. وهنا نصل إلى السؤال الجوهري التالي: إذن، لماذا أقدم ترامب في 3 كانون الثاني من هذا العام على اتخاذ قرار باستهداف قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني ومعه نائب رئيس “الحشد الشعبي” العراقي أبو مهدي المهندس، آخذاً في الاعتبار التداعيات المتوقعة لمثل هذه الجريمة؟

قبل الإجابة على هذا التساؤل المشروع، دعونا ننظر إلى ما آلت إليه أوضاع دول الهلال الخصيب خلال السنتين الماضيتين، خصوصاً بين العراق والشام (طبعاً من دون أن نتجاهل تأثيرات جائحة كورونا، فهذه كارثة طبيعية لا ارتباط لها بما نتناوله هنا). أبرز تطور في ما يتعلق بموضوعنا يتمثل في الانتصار العراقي والشامي الحاسم على الجماعات الإرهابية التكفيرية. وقد ترافق ذلك مع ترسيخ التعاون والتنسيق على جانبي الحدود، بدعم من الحكومة المركزية في بغداد. وسرعان ما تأكد للقاصي والداني أن دمشق وبغداد تسيران باتجاه التنسيق الاستراتيجي برعاية طهران عن طريق سليماني بالذات. فكان من الطبيعي أن تثير هذه الخطوات قلقاً مصيرياً لدى دول إقليمية ذات نفوذ لدى صانعي القرار في البيت الأبيض.

دعونا ننتقل الآن إلى الخطوات الأميركية المتتالية في غضون الأشهر القليلة الماضية، من دون أن ننسى بالطبع الغارات العدوانية التي يشنها “الوكيل الإسرائيلي” على الأراضي الشامية بذريعة أنها تستهدف مواقع للحرس الثوري الإيراني ومقاتلي “حزب الله” اللبناني. (وهذا موضوع سنناقشه في مقال آخر).

من الأمور الأولى التي تجدر ملاحظتها أن الإدارة الأميركية قررت فض المساكنة مع إيران في الساحة العراقية، وصولاً إلى محاولة إحكام سيطرتها على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي في المنطقة. ومن المؤشرات الدالة على رأينا، هذا نذكر العناصر التالية:

أ – اندلاع مظاهرات شعبية، خصوصاً في بغداد ومحافظات الجنوب، ترفع شعارات مطلبية محقة. سرعان ما تم تحويرها لتشهد هجمات منظمة على قنصليات إيرانية في عدد من المدن.

ب – نشوب أزمة وزارية بعد استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وفشل الكتل النيابية في التوافق على مرشح جديد بسبب الاستقطاب الداخلي الحاد.

ج – وعندما توافقت الكتل النيابية الكبرى على مرشح جديد هو أسعد العيداني، رفض الرئيس العراقي برهم صالح (كردي) تعيينه على الرغم من أنه لا يملك صلاحية الرفض. وحجته في ذلك ان العيداني مؤيد للسياسة الإيرانية.

د – انفجرت الخلافات داخل الكتل النيابية، وحدثت اصطفافات شيعية – سنية – كردية أفشلت محاولات محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي لتشكيل حكومة تخلف الحكومة المستقيلة. ووصل التكليف أخيراً إلى مصطفى الكاظمي الذي حظي بثقة مجلس النواب بعد جهد جهيد!

هـ – في ظل هذه الأجواء المشحونة، شنت القوات الأميركية في 29 كانون الأول الماضي غارات على قواعد لقوات الحشد الشعبي العراقية في منطقة القائم الحدودية مع الشام أسفرت عن مقتل العشرات. وكانت تلك المرة الأولى التي تُقدم فيها القوات الأميركية على استهداف المقاومة العراقية مباشرة.

و – بعد جريمة اغتيال سليماني والمهندس على الأراضي العراقية، تعرضت القواعد الأميركية لضربات صاروخية رد عليها الأميركيون بقصف جوي لمواقع “الحشد الشعبي” و”حزب الله” العراقي. ولكن أخطر ضربة أميركية كانت تلك التي استهدفت مراكز “الحشد” وقواعد الجيش العراقي النظامي أيضاً.

ز – وفي خضم التطورات الأمني والسياسية، وتشرذم المشهد العراقي الداخلي، تصاعدت وتيرة هجمات إرهابيي “داعش” الذين كان يُعتقد بأنهم هُزموا… لكن يبدو أنهم في الواقع احتياط جاهز للعمل عندما تُحرّك قوى مجهولة (معلومة) خيوط التحكم بهذه الجماعات الإرهابية.

وسنحاول الآن الإجابة على السؤال المطروح أعلاه.

لقد اعترف البيت الأبيض بأن قرار استهداف سليماني اتخذ قبل سبعة أشهر من تنفيذ عملية الاغتيال. هذا يعني أن الغارات على القائم تدخل في سياق ذلك القرار. وكان بإمكان واشنطن استهداف قائد فيلق القدس أثناء وجوده في لبنان أو الشام أو حتى في رحلاته الجوية التي لم تكن سرية تماماً. لكن المطلوب هو قتله على الأرض العراقية، ومعه قيادات عراقية مهمة… وكأن واشنطن أرادت أن توصل – بالحديد والنار – رسالة مفادها أن المساكنة انتهت، وأن العراق سيكون تحت الهيمنة الأميركية، وأنه لن يُسمح لمحور المقاومة بترسيخ وجوده، وبالتالي لا مجال لعلاقة تنسيق وتعاون مع الشام.

ولا يختلف هذا الموقف الأميركي الرافض لأي تناغم بين دمشق وبغداد عن مواقف مماثلة من وحدة جناحي الهلال الخصيب الذي مزقته معاهدة سايكس – بيكو المشؤومة. فمنذ الثلاثينات، دأبت القوى الفاعلة على عرقلة أي مسعى للتقارب بين العراق والشام. لقد عملت مصر وتركيا والسعودية، ناهيك عن الدول الكبرى آنذاك، كل ما تستطيع لمنع قيام مشاريع وحدوية في الهلال الخصيب لأن ذلك سيخلق قوة إقليمية لها الكلمة العليا في العالم العربي.

الإدارة الأميركية تخوض مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات مع إيران. إلا أن المعركة الأخطر الآن هي معركة العراق، من حيث سياسته الداخلية وموقعه ودوره وتحالفاته. واشنطن لا ترغب في رؤية التنسيق بين دمشق وبغداد، وتريد إنهاء المساكنة مع إيران في الداخل العراقي. وتقوم خطتها هذه على دعامتين: الأولى، تغذية الاستقطاب الطائفي العرقي في العراق، وتحريك الشارع المحقون، وفي الوقت نفسه غض النظر عن عودة “داعش”. والثانية، نشر قواتها (وقوات أطلسية أخرى) داخل الأراضي الشامية عند الحدود الشرقية ـ الشمالية.

حتى الآن لا يبدو أن القوى العراقية الوطنية مدركة للمخاطر المصيرية التي تحملها مخططات واشنطن للمنطقة. ويعتقد بعضهم أنه بالإمكان التحمل لأشهر عدة ريثما تجري انتخابات الرئاسة الأميركية. لكن هذا خطأ تاريخي فظيع، لأن المنافسة ستكون بين مصيبتين: دونالد ترامب يريد نهب نفط العراق بأية وسيلة متاحة من أجل تعويض المليارات التي صرفتها أميركا على حروبها في منطقتنا. وجو بايدن الذي قدّم سنة 2005 مشروعاً إلى الكونغرس يدعو إلى تقسيم العراق… فمن “هالك إلى مالك إلى قبّاض الأرواح”!