1

إذاعة أول مارس 1946-الفينيق

أيها القوميون في الوطن وعبر الحدود

تتجه اليوم أنظار الألوف من شباب هذه الأمة، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق حتى البحر، بل وعبر البحر أيضاً، إلى صاحب هذا العيد، إلى الزعيم. فما هي الصلة التي تربطنا به، وما هي تلك الرابطة الحية بين كل منا وبينه؟

إن سعاده يمثل، في المقام الأول، تجسيداً حياً بارزاً لقوى الحياة وقيم الحياة الكامنة في نفس كل منا، والمتحفزة فينا تنطلق وتهيمن على كياننا! إن سعاده مجموعة من المناقب والقيم والمزايا والقوى. هذه الأمور الجاثمة في كل نفس بحالة طبيعية راقدة، والبارزة أحياناً في بعض الأشخاص، ولكنها بارزة، وبارزة كلها، وبصورة جلية، وبصورة منسجمة، في سعاده.

ويضيق بي المقام، أيها الرفاق، لو جئت لأتابع تعداد هذه المناقب والقوى التي تجسدت وتكتلت فكان سعاده! هذه المناقب والقوى الكامنة بصورة طبيعية راقدة في نفس كل منا، والبارزة بشكل جلي فعال طاغٍ في نفس سعاده!

 هذا هو المظهر الأول لصلتنا بسعاده: إنه يمثل في نفسه تحقيق كل ما تتوق له نفوسنا من قيم، وتجسيد كل ما نتحفز لتجسيده من مناقب! إنه هو، في حياته وفي كيانه، تحقيق حي لكل ما يكمن في نفوسنا من أمانٍ وآمال! إنه هو، في واقعه، تطبيق لما نحنّ له نحن في أحلامنا، ونتوق لجعله واقعاً فينا!

إن سعاده هو كل منا في نزوعه وإمكانياته، وأن في كل منا “سعاده” يتحفز للانطلاق!

* * *

والمظهر الثاني لصلتنا بسعاده هو أن سعاده لا يحقق هذه القوى والقيم في نفسه فحسب، بل أنه يدعونا بهذا التحقيق لكي نحقق هذه القوى والقيم عينها في أنفسنا أيضاً.

إن القومي الذي يقدّر سعاده، ويدرك قيمته، ويظل في الوقت عينه على ما هو، غير متأثر في كيانه بسعاده، ليس قومياً صحيحاً، وليس بتابع صحيح من أتباع سعاده! إن القومي المعجب بسعاده، والذي لا يدفعه هذا الإعجاب لأن يكون بنفسه ما كان سعاده، ليس قومياً صحيحاً، وليس بتابع صحيح من أتباع سعاده!

أجل أيها الرفاق، إن التجسيد الحي الصحيح لهذه القيم الطبيعية الراقدة، إنما هو تحدٍ لهذه القيم عينها أن تنطلق من رقادها، وأن تغدو فعالة حية، وأن تتجسد في نفس كل من يحتك بها أو بالتيار الحي الذي ولدته.

ولو كان سعاده قد حقق هذه القيم في نفسه فقط، ولم يدع، بشكل فعال، كل من يحتك به لتحقيقها في نفسه، لما كان سعاده قد حققها حقاً في نفسه.

إلا أن تجسيد الحياة هو دائماً وأبداً دعوة للحياة!

* * *

ولكن أريدكم أن تعوا، وتعوا بصورة جلية، أن سعاده لا يمكنه أن يدعوكم إلى هذا التحقيق في أنفسكم، لو لم تكن هذه القيم بعينها كامنة فيكم! فكما قلت قبلاً، إن القيم التي يجسدها سعاده في نفسه هي القيم الجاثمة في كل نفس. ولو لم تجثم هذه القوى في نفوسكم، لما كان باستطاعة سعاده، أو أي إنسان آخر، أن يدعوها لتنطلق فيكم!

إن قيمة سعاده ليست في أنه أدخل إلى نفوسكم قيماً جديدة، بل في أنه عرّف كلاً منكم إلى نفسه الحقيقية، وولد فيها ذلك الصراع مع حالتها الراهنة، ثم دفعها إلى تحقيق نفسها الأصلية واستبدال نفسها الزائفة بها!

إن في كل منكم بذور القيم التي تحققت في سعاده، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كنتم تستطيعون أن تكونوا كسعاده، بل لما استطعتم أن تقدروا سعاده أو تحترموه!

أليس سعاده هو الذي قال: “إن في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم”؟ أليس سعاده هو الذي قال إنه يبني ثقته بنهضة الأمة على ثقته بالحيوية الراقدة في أبناء الأمة؟ أليس سعاده هو الذي قال: “إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ”؟ أليس سعاده هو الذي افترض، في كل ما عمله أو قاله، وجود القوى والقيم التي تمثل النهضة القومية في نفس كل جندي من جنود النهضة؟ شعارنا ـ الحرية والواجب والنظام والقوة ـ من أين نستمده إلا من أنفسنا؟ وأنى لنا أن نجده إلا فيها!

والمظهر الثالث من مظاهر صلتنا بسعاده هو أن سعاده هو مصدر ثقتنا بإمكانية تحقيق هذه القيم في نفوسنا.

إن سعاده كائن حي، حُققت فيه هذه القيم، لخير إثبات لأن هذه القيم قابلة للتحقيق.

إن سعاده واقع، لخير دليل على أن إمكانياتنا الغنية تستطيع أن تغدو واقعاً!

يستطيع الروائي الملهم أن يصوّر لنا صورة فنية جميلة فيها كل ما في سعاده من عناصر الحياة. وتستطيع هذه الصورة أن تدعونا بإلحاح لإبراز هذه العناصر في أنفسنا. ولكن هذه الصورة لن تستطيع أن تولد فينا الثقة بأن في وسعنا أن نكون كما كانت هذه الصورة!

ولكن سعاده ليس من صنع الأساطير، وليس بصورة من صنع فنان: بل هو إنسان حي، عاش بيننا، ورأيناه في التجارب التي مرت به، والمحكات التي امتحن عليها، فكانت خير دليل على حقيقة نفسه! فمن ذا الذي يجرؤ أن يقول بعد اليوم: إن هذه التضحية، هذه الصلابة، أو هذا الإخلاص، فوق متناول الإنسان، ما دامت هذه التضحية والصلابة والإخلاص قد تجسدت أمام عيوننا في إنسان من لحم ودم!

هذا هو سعاده، سعاده الرجل قبل أن يكون الزعيم الحزبي، وقبل أن يكون سعاده المسربل بالأساطير!

وهذا هو المغزى الحقيقي لاحتفالنا بأول مارس. نحن لا نحتفل فقط لنذكر أن سعاده ولد في أول مارس عام 1904، بل نحتفل في المقام الأول لنذكر أن سعاده ـ تجسيد قيمنا السامية ـ يدعونا الآن، كما دعانا أبداً إلى تحقيق هذه القيم في نفوسنا؛ ويطمئننا الآن، كما طمأننا أبداً، إلى إمكانية هذا التحقيق! إن أول مارس ليس مناسبة تاريخية نحتفل بها، وإنما هو رمز حالة كيانية نعي فيها أنفسنا، وننطلق لتحقيق أنفسنا.

(بيان أصدرته عمدة الإذاعة سنة 1946).