أي نظام عالمي جديد؟
شكل انهيار الاتحاد السوفياتي وتفتت المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، مطلع تسعينات القرن الماضي، نهاية “الحرب الباردة” بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي لصالح الثاني منهما. وكان ذلك إيذاناً بسقوط النظام السياسي الدولي الاستراتيجي الذي حافظ على التوازن العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وعمدت مراكز التخطيط الغربية (الأميركية والأوروبية) آنذاك إلى ترويج مقولة تركت تداعيات خطيرة على الأوضاع السياسية العالمية، ألا وهي اعتبار القرن الحادي والعشرين “قرن الأحادية الأميركية“.
وسرعان ما تبدت نظرية “الأحادية الأميركية” في مجموعة من الخطوات اعتمدت أساساً على التدخل العسكري المباشر وإقامة مناطق نفوذ بالتعاون مع بعض “الشركاء الإقليميين”، بهدف إعادة رسم خرائط التوسع على مستوى العالم بما يتناقض وروحية “اتفاق يالطا” بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية طالما أن أحد الأطراف الثلاثة (الاتحاد السوفياتي) “هُزم” أمام الطرفين الآخرين (الولايات المتحدة وبريطانيا). وهكذا تفجّرت الصراعات الدموية في البلقان، ووقعت حرب الخليج الثانية بعد دخول القوات العراقية الكويت… ثم بلغت التدخلات ذروتها مع الغزو الأميركي (الأطلسي) لأفغانستان، وتلاه الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق بدون قرار من مجلس الأمن الدولي.
والواضح أن القوى الأميركية ـ الأوروبية ـ الأطلسية، المنتشية بالنصر الكبير على المعسكر الشيوعي في “الحرب الباردة”، سعت إلى إقامة نظام عالمي جديد ذي قيادة غربية على حساب قوى أخرى ذات حيثيات استراتيجية صاعدة (الصين والهند على سبيل المثال) أو مستعادة (روسيا بعد رحيل رئيسها الضعيف بوريس يلتسين وتسلم فلاديمير بوتين زمام القيادة). وكل ما حققه آنذاك الغرب الأميركي ـ الأوروبي ـ الأطلسي هو تدمير النظام العالمي القديم بدون أن ينجح في إنشاء نظام جديد نظراً إلى غياب التكافؤ في موازين القوى الدولية.
يمكننا القول إن التدخل الأطلسي لإسقاط نظام العقيد معمّر القذافي في ليبيا يمثل نقطة تحول في المنظور الاستراتيجي للأطراف المؤثرة على المستوى العالمي. فقد استحصلت الدول الغربية (الأطلسية) على قرار من مجلس الأمن الدولي رقم 1973 يجيز لها التدخل العسكري لفرض “حظر جوي” في سماء ليبيا و”حماية السكان والمدنيين”. ومع أن خمسة أعضاء في مجلس الأمن امتنعوا عن التصويت بينهم المندوبان الروسي والصيني، إلا أن هذين الأخيرين لم يستخدما حق النقد (الفيتو)، علماً أن بوتين رئيس الوزراء آنذاك أبدى اعتراضات شديدة على القرار. وهكذا جالت الطائرات الأطلسية وصالت فوق ليبيبا، ليتبيّن بوضوح أن المخطط كان إسقاط نظام القذافي وليس “حماية السكان والمدنيين”!
ترافق التدخل الأطلسي في ليبيا مع اندلاع ما عُرف بـ”الربيع العربي” في تونس ومصر وسوريا والبحرين واليمن… وكانت سبقته خطوات لتوسيع الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي ناحية الحدود الروسية من البلطيق إلى القوقاز. وعلينا أن نضع في هذا السياق ايضاً قرار الإدارة الأميركية باعتبار مناطق جنوب شرق بحر الصين ذات أولوية استراتيجية حيوية للمصالح الأميركية العليا. وأدى هذا الواقع الجديد إلى مسارين مهمّين: تحرك روسي لاستعادة زمام المبادرة، ليس على المستوى الأوروبي فحسب وإنما على المستوى العالمي. وكذلك تغيّر صيني لجهة الانفتاح على العالم الخارجي على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية. والتقى هذان المساران في نشوء علاقة استراتيجية خاصة بين بكين وموسكو، أوجدت نوعاً من التوازن الدولي الذي كبح جماح السياسات الأميركية ـ الأوروبية ـ الأطلسية عالمياً.
إذن نحن أمام واقع دولي جديد: نظام “الحرب الباردة” سقط مع سقوط الاتحاد السوفياتي وحلفائه، ونظام “الأحادية القطبية” عجز عن تثبيت ذاته وإن كان حقّق مكاسب واسعة على حساب القوى الأخرى. ولذلك يبدو أننا دخلنا الآن مرحلة البحث عن نظام مختلف يأخذ في الاعتبار التوازنات الإقليمية والعالمية المستجدة. وقد تتضمن هذه العملية الإطاحة بكثير من المسلمات الاستراتيجية التي إما أن تكون موروثة عن توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإما ناجمة عن ممارسات “الأحادية القطبية” في العقود الثلاثة الماضية. ومن المؤكد أن بلادنا ليست في منأى عن تداعيات مثل هذا النظام عندما يتم التوصل إليه، بل لا نغالي إذا قلنا إن العالم العربي سيكون في عين العاصفة فور توصل القوى العالمية إلى ما يشبه “اتفاق يالطا رقم 2”!
حتى هذه اللحظة، لا تلوح في الأفق بوادر خطوات محددة لوضع أسس متينة لنظام إقليمي جديد في بلادنا. لكن هذا لا يلغي كون مراكز التخطيط الحكومية والخاصة عاكفة منذ سنوات على دراسة المستجدات وترتيب المشاريع لمستقبل الهلال السوري الخصيب. فالأكيد أن خطوط سايكس ـ بيكو قد بلغت منتهى فعاليتها، والأحداث الميدانية في الشام والعراق ولبنان والأردن وفلسطين تثبت ذلك بصورة واضحة. والمعضلة الآن لا تكمن فقط في رفض الاعتراف بواقع سقوط الترتيبات الكيانية المستمرة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإنما في عدم التسليم بأن البنى السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية الحاكمة مسؤولة إلى درجة قصوى عن الانهيار القومي الحاصل.
إن غياب أي دور مؤثر للقوى القومية الفاعلة هو الوجه الآخر للتدخل الدولي والإقليمي العامل حالياً على التخطيط لمستقبل بلادنا بمعزل عنا. ربما تستغرق خطة إنشاء نظام عالمي جديد سنوات عدة، غير أن المفاوضات الدائرة داخل قاعات مغلقة في عواصم القرار ستتمظهر يوماً بعد يوم، حروباً ودماراً على امتداد ساحاتنا القومية… ونحن (أفراداً وأحزاباً ومؤسسات) نتحمل المسؤولية الأساسية.
أحمد أصفهاني