1

أنطون سعاده.. من شاعر ضلَّ الطريق.. إلى فاشل في السياسة والإذاعة!

العنوان يبدو مستفزاً، لكنه مستقى من اسمين معروفين في الحركة السورية القومية الاجتماعية.. فصاحب الشق الأول من العنوان هو محمد الماغوط (1934 – 2006)، شاعر وكاتب مسرحي انتمى للحزب في بداية الخمسينيات.. أما الجزء الثاني فهو للأمين ورئيس الحزب سابقاً أسد الأشقر (1908 – 1986)، سياسي وباحث تاريخي شهير صاحب كتاب “تاريخ سوريا” بأجزائه الأربعة.

إن ما يجري اليوم من نبشٍ في التجربة السورية القومية الاجتماعية، وما نقرؤه من محاولات تفكيكٍ لمفاصلها الفكرية والسياسية والتنظيمية، يقتضي ألا يكون هناك محرمات على البحث وطرح الأسئلة والمكاشفات، خاصة أن هذه الحركة تمرّ في أقسى ظروفها المصيرية بسبب التراكم الهائل في الأزمات التي لم تُحسم سابقاً في وقتها الطبيعي بسبب عوامل مختلفة منها عدم وجود الإرادة بالحسم من قبل القيادات المستفيدة من بقاء هذا الواقع على ما هو عليه، وكذلك عجز القوميين وعدم قدرتهم على تغيير الحال إما بسبب الالتزام بالنظام أو جرّاء الجهل بجوهر المشكلة للأسف!.

في أحد حواراته الصحفية، يقول محمد الماغوط إن سعاده “شاعرٌ ضلّ الطريق” ويقصد ذهابه باتجاه العمل السياسي وتأسيس الحزب والمراهنة على أجيال ستغير معالم أمة كاملة تعصف بها الهزائم من كل حدبٍ وصوب.. هذا الرأي يبدو مبرراً لشاعر اشتهر بسوداويته القاتلة وتشاؤمه المرير إزاء الحياة بشكل عام، وهو رأي لم يصل إليه الماغوط إلا في خريف عمره بعد أن عصف بالأمة والحزب الكثير من الأحداث والهزائم والإخفاقات.. أما ما قبل هذه المرحلة فكان للماغوط إسهاماته الكبيرة في صحافة الحزب والدفاع عنه في الخمسينيات والستينيات بعد مقتل المالكي ومحاولة الانقلاب الفاشلة، حيث عانى القوميون الاجتماعيون ما عانوه من تنكيل واضطهاد وإعدامات وسجون.. ويمكن للمهتم بهذه المرحلة أن يطّلع على ما أصدره الرفيق جان دايه عن الماغوط في الجوانب التاريخية والأدبية والإعلامية.

كان سعاده شاعراً بالتأكيد، فهو كاتب النشيد السوري القومي الاجتماعي، ومؤلف كتاب “الصراع الفكري في الأدب السوري” الذي حاور فيه رواداً في الأدب وأحدث تأثيراً في كتاباتهم خاصة على صعيد المضمون ولنا في حوار سعاده مع الشاعر سعيد عقل خير دليل على ذلك.. يضاف إلى ذلك كتابة سعاده لقصتين شهيرتين هما “عيد سيدة صيدنايا” و”فاجعة حب”.. فسعاده كان شاعراً فعلاً، وتلك ليست تهمة بالتأكيد، بل هي من ميزات القوة لديه أن يذهب إلى السياسة حاملاً مخيلة خصبة وثقافة غنية، جعلته (يفلسف الحزبية) كما يقول هشام شرابي، لكن دون أن نوافق شرابي على أن سعاده حزّب الفلسفة!. ثم أليس هو القائل (إن في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم)، فالمقصود هنا هي المخيلة المنطلقة التي لا تقبل الأمر الواقع بل تسعى لتغييره عبر تصوراتها الإبداعية، وبناء على ذلك يمكن القول إن من أهم مساوىء سياسيي اليوم أنهم ليسوا شعراء، أو إنهم بمخيلات ضحلة غير قادرة على تصوير البدائل عند مواجهة كل ظرف ومرحلة..

لنتخيل مواقف سعاده لو لم يكن شاعراً يمتلك مخيلة الشعراء المدعّمة بأسباب العلم وحقائق التاريخ والجغرافيا.. هل كان سيقفل راجعاً من طريق الأردن بعد الثورة القومية الاجتماعية كي يقابل حسني الزعيم في دمشق وهو يعلم تماماً أن الأخير سيسلمه إلى الأمن اللبناني؟ وهل كان من الممكن أن نعثر فقط على بعض مئات الليرات اللبنانية معه وهي بالمجمل “ثروته” التي تركها قبل أن يستشهد؟

لو لم يدخل سعاده إلى السياسة بمخيلات الشعراء، لما ذهب طوعاً إلى الاستشهاد، ولَمَات على كرسيّه مريضاً بالسكري أو سرطان البروستات بعد أن يطعن في السن وهو في المسؤولية كسائر الأمناء العامين للأحزاب في العالم العربي، وأيضاً لكان صاحب أطيان وعقارات وقصور كما حدث لاحقاً مع الكثير ممن خلفوه في قيادة الحزب سواء في الرئاسة أم المجلس الأعلى أم في المجال العسكري أيضاً.

 أعتقد أن من أهم ميزات سعاده، أنه تعامل بمخيلات الشعراء عندما وضع الدستور والنظام الداخلي وبنى المؤسسات.. لقد أنسنَ السياسة وجعلها أخلاقية في خدمة الهدف الذي أنشئت من أجله، وفي كل هذا لا تبدو الشعرية تهمة، بل هي فرادة وميزة لم يحتملها الظرف العام في المنطقة ولا المستوى الثقافي والقيمي لأبناء الأمة، ولهذا كله كان من الطبيعي أن يختار طريق الاستشهاد مبكراً، لأن الأفق أصبح مسدوداً على صعيد الإمكانات الداخلية للحزب والظروف العامة الإقليمية والدولية، فكانت شعرية الاستشهاد وتفاصيله التي اكتشفناها عندما باح “الكاهن الذي عرَّفه” بما جرى في ليلة الثامن من تموز.. إن مخيلة الشاعر عند سعاده، هي التي روّضت السياسة وحولت الاستشهاد إلى حافز دائم ورمز مستمر لا يمكن اغتياله كما توهّم القاتلون!

لو أن سعاده اكتفى بالشعر ولم يضلّ الطريق عندما ذهب باتجاه السياسة، كما رأى الماغوط، فهل كنا سنحصل على هذا الكم الهائل من الفكر والمواقف وهل كانت السياسة عبارة عن فن يخدم الأغراض القومية؟ إن مجرد تعريف سعاده للسياسة بأنها فنٌ، هو شعر لشاعر لم يضلّ الطريق بل هو يعرف طريقه جيداً!

يتقاطع أسد الأشقر مع الماغوط في المصبات الأخيرة من قوله السابق، ففي رسالة منه إلى الزعيم، يقول أسد الأشقر: “إنّ الزعيم كان على صواب علميًّا وعقائديًّا وفلسفيًّا، ولكنّه لم يكن ناجحًا سياسيًّا وإذاعيًّا”! وعلى الأرجح أن ذلك يرجع إلى حجم الخذلان الذي مُني به القوميون بعد غياب سعاده، وابتلائهم بقادة ضعفاء في السياسة والشعر على حد سواء، فمن يقع في فخّ اغتيال المالكي أو من يلبسه تلفيق هذا الاغتيال، لا شك يعتبر قاصراً من الوجهة الشعرية والسياسية على حد سواء! ومن يتورط في انقلاب عام 1961، دون أن يستكمل المقومات اللازمة لهكذا خطوة، فمن المؤكد أن لديه مشكلة في المخيلة والعلاقات السياسية أيضاً!

ما نعرفه عن سعاده عدم مهاودته لسلطات الانتداب الفرنسي، فرغم أنه حجب جملة “إقامة نظام جديد” من غاية الحزب إثر انكشاف أمره – وهذا أمر يحق له بطبيعة الحال بما أنه المؤسس والمشرّع وصاحب الدعوة – إلا أنه لم يساوم أو يتكتك سياسياً أمام المحكمة لأن المجابهة بالحق القومي كانت هي الأجدى كما رأى بمخيلته الشعرية، ولو أن سعاده قبل بما عُرض عليه وما كان يمكن أن يعرض من الداخل والخارج لكان رئيساً للبنان ولحقق مجده الشخصي لكن من دون مجد الأمة! هل يمكننا تعريف النجاح السياسي إذا لم تكن السياسة فناً لخدمة الأغراض القومية؟ ترى ماذا سيبقى منها سوى المنافع الشخصية والمكاسب وانحراف المسار؟

لا أعتقد أن سعاده كان فاشلاً سياسياً أو إذاعياً، وأتذكر هنا مأثرة لقائه بأحد الرجال اللبنانيين المسنين عندما جاء يعاتبه لأنه يريد ضم لبنان إلى سوريا، فما كان من الزعيم إلا أن قال له إنني أريد أن أضم سوريا إلى لبنان، فما كان من المسن إلا أن يبتسم ويدعو بالتوفيق لسعاده ويخرج من عنده راضياً مرضياً! تلك الحادثة ومثلها كثير يمكن أن تدل على ماهية تفكير سعاده وقدرته على الوصول إلى الآخرين، وهي صفات إذاعية عالية اتصف بها في حواراته مع أهم المفكرين والشعراء عندما غير قناعاتهم وجذبهم باتجاه الحركة مثل سعيد عقل وهشام شرابي وغيرهم.

من يتابع مسار القيادات الحزبية التي خلفت سعاده يكتشف حجم التغير الذي حصل على صعيد الذهنية والممارسة، فالمسؤول الحزبي اليوم يجلس كموظف عند أي مسؤول في كيانات الأمة التي صنعتها سايكس بيكو! يجتمع مع قادة الدول والفروع الأمنية ورؤساء البلديات ومخاتير الحارات، من دون أن يمتلك مخيلات الشعراء ولا حنكة السياسيين. فالمسؤول الحزبي بلا مشروع، بل منفذ للأوامر التي تصله حتى فيما يخص الشؤون الداخلية للحزب! وللطرافة فإن أولئك المسؤولين يعتبرون ذلك ذكاءً وطرقاً دبلوماسية في التعامل لكسب ودّ الآخرين، لكنها في الحقيقة طريقة للانتفاع وبناء المجد الشخصي من العلاقات بالمتنفذين، لأن الحزب عملياً لم يستفد من كل ذلك بشيء سوى تطفيش الخبرات والمهارات واغتيالها في كثير من الأحيان.. وفي المقابل زيادة الأطيان والأملاك والأرصدة في حسابات المسؤولين!

في رسالته تلك، يذهب أسد الأشقر أبعد من ذلك عندما يقول: “عندما أرجع بفكري أدراج المراحل التي قطعها الحزب وأفترض: لو كان الزعيم أسّس في لبنان سنة 1932 «حزب الإصلاح اللبناني» وفي سورية «حزب الإصلاح السوري» وسيّر الحزبين في انسجام واتّجاه متوافقين، ماذا كان حدث؟ أجيب نفسي: كان الزعيم اليوم زعيم لبنان بدون منازع، وكان الزعيم اليوم موجّه السياسة العربية العامّة في «جامعة الدول العربية). يعتقد الأشقر أن نقل (الإثم الكياني) للحزب، يمكن أن يشكل منجاةً له وأسلوباً لتحقيق أهدافه البعيدة والاستراتيجية، ويعتبر أن ذلك كان سيشكل نجاحاً سياسياً، في حين أن الواقع يقول إن الحزب في لبنان والشام لم يستطع المحافظة على وحدته في كثير من المراحل، فكيف يمكن أن يحتفظ بمركزيته عندما تستقل الكيانات بتنظيماتها الخاصة لاسيما بعد أن يغيب سعاده، وهو غاب فعلاً عن الساحة بعامل الاستشهاد. هنا لا يبدو تدجين الحزب طريقاً مناسباً لتحقيق المبادئ السامية الأساسية والإصلاحية، ليس بسبب غياب الوسيلة الشريفة عن الغاية النبيلة، بل لأن واقع المواجهة الصريحة وغير المهاودة هي التي حفظت مكانة الحزب منذ عام 1932 حتى اليوم، بل إن هذا الحزب يستمر اليوم بفعل الاستشهاد الذي أنجزه سعاده عندما ربط القول بالفعل، ولم يكتفِ بالشعارات كسائر الأحزاب.

من يدري، ربما لو هرب سعاده من تجسيد مقولته الشهيرة بأن الحياة وقفة عز فقط، أو لو أنه هان وقبل بسلخ جلد الحزب وتغيير هويته كما كانت تقتضي ما يسمونها (الحنكة السياسية والشطارة في العلاقات العامة)، فهل كنا سنجد اليوم حزباً تحت مسمى الحزب السوري القومي الاجتماعي؟

إن القائمين على أمر الحزب اليوم، يقتاتون ويبنون قصورهم ويشترون سياراتهم من دماء سعاده أيها السادة، ولو أن سعاده لم يفعل ما يسمونه “فشلاً في السياسة والإذاعة”، أو لو أنه لم يتميز بمخيلة شعرية عالية، لما كانوا موجودين في المشهد على الإطلاق!