أزمة زيمبابوي: دروس في اللاقيادة توما توما
على الرغم من المناورات والضمانات والتطمينات والتدخلات الخارجية، فقد رضخ روبرت موغابي رئيس زيمبابوي للضغوط، وتقدّم باستقالته رسمياً ليرحل عن سدة السلطة التي تربع عليها لأكثر من 37 سنة. وحتى هذه اللحظة، لا أحد يمكن أن يتوقع ما سيؤول إليه مستقبل البلاد في ظل التجاذب الواضح بين القوى السياسية الحزبية والجيش الذي بادر إلى التحرك عندما وصلت أوضاع البلاد إلى حافة المواجهات الداخلية.
تجربة موغابي في زيمبابوي تستدعي قراءة متأنية لعلنا نتبين من خلالها العوامل التي تجعل الثورة تأكل أبناءها، قبل أن تتيح لبعض القيادات “الثورية” مجالات السيطرة الديكتاتورية على حساب المبادئ التي كانت بوصلة الثوار للتحرر والتنمية والتقدم. ذلك أن موغابي يشكل نموذجاً رأيناه يتكرر بأشكال عدة في عالمنا العربي، ليس على مستوى الأحزاب والجماعات الحاكمة فقط وإنما أيضاً على مستوى الأحزاب السياسية والعقائدية بصورة عامة.
كان موغابي رئيساً للاتحاد الوطني الأفريقي لزيمبابوي (زانو) عندما انتصرت الثورة على نظام الفصل العنصري في روديسيا، وحصلت البلاد على استقلالها في نيسان سنة 1980 تحت اسم زيمبابوي. وقد استمرت الثورة منذ سنة 1972 يدعمها أحرار العالم والقارة الأفريقية، وسقط فيها حوالي ثلاثين ألف قتيل قبل أن يُعقد اتفاق “لانكستر هاوس” الذي أنهى الحكم العنصري ومهّد لانتخابات عامة فاز فيها موغابي بمنصب رئيس الوزراء.
وكما يحدث في معظم التجارب الثورية، سرعان من نشب صراع بين موغابي من جهة ورفيقه في النضال وزير الداخلية جوشوا نكومو من جهة ثانية. وفي مطلع سنة 1982، إنفجرت المعارك بين الجانبين، وانتهت بانتصار موغابي وأنصاره. لكن الثمن كان باهظاً جداً: أكثر من عشرين ألف قتيل من رفقاء السلاح الثوري! ثم جاءت الخطوة “الطبيعية” التالية بتعديل الدستور سنة 1987 لإقامة نظام رئاسي يتولاه موغابي نفسه من دون أي منازع أو منافس.
وما كان للشعب في زيمبابوي أن يتوقف طويلاً عند مظاهر الممارسة الديكتاتورية لو أن الاستيلاء على السلطة ترافق مع إنجازات على الأرض في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. صحيح أن موغابي كان من أبطال التحرير، وظلّ حتى آخر لحظة معادياً للسياسات الاستعمارية الأوروبية، وشجّع سنة 2000 على استرجاع آلاف المزارع الخصبة من “مالكيها” البيض بهدف توزيعها على المواطنين السود… إلا أن الفساد المنظم، وعلى أعلى المستويات، منع تحقيق أي من طموحات الشعب الذي باتت الغالبية العظمى منه تعيش تحت خط الفقر.
وبقدر ما تصاعدت الأصوات الانتقادية في الداخل، بقدر ما أخذ موغابي يُمعن في ترسيخ نظامه الديكتاتوري اعتماداً على زمرة مقربة منه كانت تستخدم سياسة الفساد والإفساد والعنف الممنهج لقمع كل القوى المعارضة. ولم تستثن حملات التطهير حتى أعلى دوائر السلطة، وأهمهم إيمرسون منانغاغوا الذي أقيل من منصبه وأجبر على الفرار. والسبب في ذلك ليس الخلاف في الممارسات، بل لأن موغابي أراد توريث زوجته غريس التي تتمتع بنفوذ كبير جداً.
الواقع أن العالم كان يواجه جانبين متناقضين في شخصية موغابي: الجانب السياسي المعادي للاستعمار والتدخلات الخارجية، والجانب العملي الذي رسّخ نظاماً ديكتاتورياً قمعياً فاسداً. والمشكلة في هذه المعادلة أن شعب زيمبابوي لم يكن يحصد سوى الكلام من تصريحات موغابي النارية، بينما كانت حياته تتحول إلى جحيم يومي على كل المستويات. فما عادت جموع الناس قانعة بالفتات في حين يتناهش الكبار مغانم السلطة.
بعد سبع وثلاثين سنة على تحقيق النصر، وصلت زيمبابوي إلى طريق مسدود فتدخل الجيش لأن النظام الديكتاتوري أنهى عملياً كل الأحزاب والمنظمات المعارضة. المشكلة هنا أن المؤسسة العسكرية نادراً ما تقيم نظاماً ديموقراطياً، أو تعيد السلطة إلى المدنيين بأسلوب سلمي. ومع ذلك يأمل الشعب في الخلاص، لأن أي شيء سيكون هو أفضل مما كان!
ترى، لماذا تسقط الأحزاب الثورية، سواء في السلطة أو خارجها، في هوة التسلط والفساد بما يتناقض على طول الخط مع تعاليمها ومبادئها؟