أزمة السياسة والشأن العام في الشام- الحلقة الرابعة: التناقضات الحاكمة- شوكت البشارة
لا تختلف تساؤلاتنا عن الحاجة لفاعل سياسي جديد في الشام-سورية اليوم، عن تساؤلات يمكن أن تُطرح في باقي الكيانات السورية وفي بلدان عربية أخرى شهدت ثورات أو حركات احتجاج. فإشارات الاستفهام نفسها يطرحها ناشطون سعوديون ومصريون وتونسيون ومغاربة ويمنيون على أنفسهم. ولا تتوقف التشابهات عند الإطار العربي، بل يمكن أن تمتد باتجاه أوروبا الجنوبية، فهناك تساؤلات مُشابهةٌ طُرحت خلال السنين الماضية في اليونان وإيطاليا واسبانيا والبرتغال. الفارق النوعي، والأهم، الخاص بالشأن الشامي، هو أن إشارات الاستفهام هذه بالكاد تنقذ نفسها من الغرق في بحر الدماء النازف عن الحرب الوجوديّة التي فرضت على الشاميين، وهناك صعوبة فائقة في محاولة الإجابة على أي سؤال سياسي أمام تحدّي المعضلة الأهم في الشام اليوم: البقاء على قيد الحياة في الداخل، وتدبير الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة في بلدان اللجوء.
غياب الفاعل السياسي ليس استثناءً شاميا إذاً، بل إن الحالة الشامية، رغم دراماتيكيتها، هي جزءٌ من أزمة سياسية وفكرية إقليمية وعالمية في بلدان ما تم تسميته ببلدان الربيع العربي تحديداً.
يشيع القول إن جيل الثورات فشل في قطف ثمار حراكه الشعبي الهائل لأنه لم ينتج قياداته وتنظيماته السياسية الخاصة، لكن هذا القول لا يتسرع في حكمه على جيلٍ يعيش ظروفاً بالغة القسوة والصعوبة فحسب، لكنه يتحاشى من خلال مقاربته الجيلية الضيقة الحديثَ عن التناقضات البنيوية الكبرى، التي تجعل من الانخراط المنظم في العمل السياسي عملاً فائق الصعوبة في أمتنا السورية وباقي أمم العالم العربي اليوم. باعتقادنا أن مواجهة هذه التناقضات بشكل مباشر وتفصيلي، بعيداً عن الأوهام والتمنيات، يجب أن يكون الخطوة الأولى نحو التأسيس لفاعل سياسي جديد، وإلا فإن أي مبادرة جديدة ستلقى مصير كل الأحزاب والحركات والتيارات الناشئة حديثاً. فإما أن ينفرط عقدها أمام أول منعطف حقيقي، أو تتحول إلى دكان صغير يكاد لا يعبِّر إلا عن عدد أعضاء هيئته التنفيذية.
لذلك سنستعرض أولاً ما نعتبره المشكلات الأساسيّة الأربع التي تشكل أزمة السياسة في الشام اليوم: تناقضات الكيان الشامي، تناقضات الإقليم، إرث العمل المُعارض، وظروف الثورة والشتات، متمنين أن نكون بذلك قد نجحنا بتوضيح المقصود من الفاعل السياسي التحرري الذي يمكن أن ينشأ في الشام.
أولا: تناقضات الكيان الشامي
في عمرها القصير كدولة، والذي لم يصل إلى القرن بعد، لم تعش الشام مرحلة مستقرّة من الحياة السياسية العامة. فالفترات البرلمانية المتقطّعة أواسط القرن الماضي، لم تكن كافية لتأسيس مبادئ وتقاليد وأجسام سياسية راسخة ومرنة في الوقت عينه. بل على العكس، عكست تلك الفترة التناقضات التأسيسية للكيان الشامي، والتي دفعت به أولاً إلى الوحدة مع مصر، ومن ثم قدمته منهكاً جاهزاً لحكم الحزب والفرد الواحد.
منذ إعلان المملكة السورية في عام 1918، حكمت الشام ثلاثة تناقضات اجتماعية كبرى: التناقض الحلبي – الدمشقي، التناقض الريفي – المدني، والتناقض السني – الأقلي. تضافرت هذه التناقضات الاجتماعية، من جهة، مع رفض النخب السياسية والفكرية الشامية طيلة القرن العشرين صياغة مشروع هوية شامية – سورية، ومع استقطابات إقليمية ودولية هائلة (الصراع المصري -العراقي، الحرب الباردة، الصراع العربي – الإسرائيلي) من جهة أخرى، لتجعل من الشام ساحةً لتجاذبات كبرى أولاً، ومن ثم طرفًا يعرّف نفسه من خلال هذه التجاذبات. بهذا المعنى، كانت السياسةُ بوصفها “هرب من الداخل الإشكالي نحو الخارج”، السمة الأبرز في التاريخ الشامي منذ الاستقلال.
واليوم، لا تبدو أي من هذه التناقضات وكأنها تنتمي إلى الماضي، بل إنها، على العكس، شديدة الراهنية والتأثير. فبالإضافة إلى الانقسام الطائفي الحاد، والتوتر المناطقي والطبقي، تحضر المسألة الكردية كشأن جوهري قد يغير شكل الكيان الشامي للأبد. وفي حين تراجعت المشاريع الطامحة لدمج الشام مع دول عربية أخرى، يحضر الصراع الإسلامي-العلماني (والإسلامي-الإسلامي، والعلماني-العلماني) بشكل تبدو معه التوافقات الوطنية ضئيلة وشكلية.
بهذا المعنى يبدو التساؤل عن ضرورة وجود فاعل سياسي جديد في لحظتنا الحالية وكأنه يستدعي أولاً البحث في إمكانية إعادة تأسيس الكيان الشامي بحد ذاته، تماماً كما في باقي الكيانات السورية مثل لبنان والعراق والأردن. وهذا يقتضي الاشتباك بشكل كامل وتفصيلي مع أسئلة جوهرية تختص بما يقتضيه التحرر في سياقنا الشامي من شكلٍ للدولة من جهة، بما في ذلك قضية اللامركزية والقوانين الانتخابية والعلاقات بين المناطق والجماعات والأفراد، ومن شكلٍ للفاعل السياسي التحرري بحد ذاته من جهة ثانية.
لا يملك أي فاعل سياسي محتمل ترف الترفع عن الدخول في تفاصيل هذه الأسئلة، أو تحاشيها، باللجوء إلى العناوين العريضة والغامضة عن المواطَنة والعقد الاجتماعي. وإنتاج هذه التفاصيل يقتضي بحد ذاته نمطاً من التأسيس المعرفي التاريخي والجغرافي والقانوني لم يتوفر حتى الآن إلا عبر ما تركه لنا أنطون سعاده من إنتاج غني.
ثانيا: تناقضات الإقليم
إذا كانت هذه التي تُدعى بالثورة الشامية – السورية، قد دفعت بتناقضات الكيان الشامي إلى الواجهة من جديد، وكشفت عن كم الحساسيات والتوجهات الغنية والصعبة في آنٍ معاً على الصعيد المحلي، فإنها سرعان ما كشفت الكيان أيضاً على صراعات إقليمية هي اليوم في أسوأ حالاتها وأكثرها أذيةً. لم يعد التنافس الإقليمي في المنطقة يأخذ شكل حرب باردة كما كان في خمسينات وستينات القرن الماضي حسب توصيف المؤرخ الأميركي مالكوم كير، ولم يعد يقتصر في تأثيره على النخب أو على وسائل الإعلام والتأثير والتمويل الرسمية. في الواقع، يبدو الآن وكأن الفرد العربي العادي عموما، والسوري خصوصا، عاجزٌ عن كتابة كلمة على صفحات الفيس بوك أو مشاركة فيديو أو التبرع لمشروع تنموي صغير، دون أن تجرفه دوامة الاصطفافات والمحاور الإقليمية، فما بالنا بتأسيس حركةٍ سياسيّة أو رفع صوتنا بكلمة حق آخذين وعاملين بالحقيقة التي أتانا بها أنطون سعاده أحد فلاسفة ومفكري الأمة السورية منذ أكثر من سبعين عاما. حقاً هل نجرؤ؟!
ليس من الممكن تصوّر عمل سياسي لا يأخذ بعين الاعتبار حرباً إقليمية مُركّبة على استقطاب دولي شديد، وليس التعامل مع هذا الواقع بالأمر السهل أو البسيط. وأي فاعل سياسي تحرري شامي أو سوري يحتاج للتعاطي مع آثار هذه الحرب الإقليمية على أرضه بواقعية سياسية، دون أن يتخلّى عن مبادئه السياسية والأخلاقية. هذا يعني أن عليه ألا يذهب بعيداً في مرونة التعاطي والبراغماتية، فيتحول إلى زبون مستتبع، وألا يرتاح إلى نمط تعبير أخلاقي هامشي، مكتفٍ بذاته ومغرور بثباته على لاءات متباينة الاتجاه، تضع مطلقيها في موقع مريح خطابياً، شديد العمومية على الصعيد الأخلاقي، وعقيم سياسياً.
ثالثا- إرث العمل السياسي المعارض:
إن ما اصطُلح على تسميته بالمعارضة الشامية-السورية، بمختلف أحزابها وتكتلاتها وشخصياتها، خرجت منهكةً من حقبة الرئيس المرحوم حافظ الأسد بعد عقدين ونيف من التغييب في السجون، والتحطيم الكامل لكل أشكال التنظيم السياسي والنقابي. خلال تلك الفترة كان العدد الأكبر من الفاعلين في المُعارضة السورية قد كبروا في العمر، وعانوا السجن والنفي والتحطيم السياسي، كما كانت أدواتهم الفكرية والإيديولوجية قد تقادمت وشاخت وتكلّست، خصوصاً وأنهم قد حُرموا من التعاطي المباشر مع التحولات الفكرية والسياسية في عقدي الثمانينات والتسعينات. عدا ذلك، كان لكثيرٍ منهم مرارات متراكمة مع تجاربهم الحزبية والتنظيمية، وهي مرارة ستنعكس بأشكال عديدة خلال السنوات التالية.
لذلك علينا بدايةً القول إن الانخراط في نظرة تقيميّة لعمل المعارضة الشامية-السورية، منذ لحظة ربيع دمشق وحتى اندلاع ما سُمي بالثورة، لا يأتي بغرض المزاودة أو القول إنه كان ينبغي فعل هذا بدلاً من ذاك. بل يمكن القول إنه لم يكن من الممكن مطالبة المعارضة الشامية-السورية الموجودة والمعترف بها من قبل الدولة (النظام)، بأكثر مما فعلته في تلك الفترة، ويحسب لها إصرارها، رغم كل الظروف، على البقاء والعمل ضمن هوامش شديدة الضيق.
ما نريد قوله: أن هذه الظروف أفرزت آليات عمل وتفكير ستستمر إلى ما بعد يومنا الحالي، وأن هذه الآليات باتت اليوم في صلب أزمة السياسة في الشام.
لم تعبّر المعارضة الشامية-السورية (التي عرّفناها في المقطع السابق) يوماً عن كتلة تاريخية اجتماعية واضحة المعالم، ولم يكن لها عمقٌ اجتماعي تستطيع الاستناد عليه، (باستثناء الحزب السوري القومي الاجتماعي، هذا في حال اعتبرناه من المعارضة). كان هذا، إلى حدٍ بعيد، نتيجة عدم قدرة أحزاب المعارضة وشخصياتها على الانخراط والتفاعل بشكل حر مع المجتمع الشامي-السوري، لكنه نبع أيضاً من أن التيارات القومية واليسارية التي شكلت متن التجمع الوطني الديمقراطي المعارض في عام 1980، والتي ستقوم بعد ذلك بإطلاق إعلان دمشق بالتعاون مع شخصيات مستقلة وأحزاب كردية عام 2005، كانت في الأساس ومنذ تشكلها على علاقة طرفية مع المجتمع الأهلي الشامي-السوري بشكل عام، ومع السنة وأبناء المدن بشكل خاص أكثر من الأقليات وأبناء المناطق الريفية. في المقابل، امتلك الإخوان المسلمون عمقاً اجتماعياً مرتكزاً على البرجوازية السنّية الصغيرة في مدن مثل حلب وحماه وإدلب وحمص، وحتى دمشق، وهذا سيترك انطباعاً هاماً لدى الأحزاب العلمانية حول قدرة الإخوان وقوتهم، لكن هذا القاعدة ستنهار أيضاً مع خروج الإخوان النهائي من البلاد في الثمانينات.
غياب هذا العمق الاجتماعي وتعذر الاستثمار في خلقه وتوسيعه خلال سنوات ربيع دمشق، الذي لم يحتمل هامشه البسيط والقصير إمكانية العمل السياسي المباشر ومحاولة بناء تجارب تنظيمية جديدة، كان سيؤدي إلى نتيجتين أساسيتين.
النتيجة الأولى، أنه في غياب القدرة على العمل الشاقولي، أي بين حزب سياسي واضح الأفكار وقاعدته الاجتماعية، طغت العقلية الائتلافية الأفقية المستندة إلى أن المشكلة والحل في عمل المعارضة تتلخص أولاً وأخيراً في تجميع جميع الأحزاب والكتل الموجودة، أو أكبر قسم منها في جسمٍ واحد، والتوصل فيما بينها إلى مواقف مشتركة ورؤية موحدة. وهذا كان يعني، بالضرورة، التوقف عند العموميات على صعيد المضمون الفكري والبرنامج، لأن هذه العموميات هي القواسم المشتركة الوحيدة. وهذا كان يعني، أيضاً، الدخول في متاهات إجرائية حول دخول حزب وخروج آخر، والسعي دوماً إلى ضم الجميع دون القدرة على تبين أهمية وأحجام المجموعات المختلفة. هذا العقل الائتلافي، غير القادر على مقاربة السياسة إلا من خلال تحالفات الحد الأدنى بين أجسام فوقية أو طرفية لا تملك عمقاً اجتماعياً حقيقياً، هو اليوم في صلب أزمة العمل السياسي الشامي.
أما النتيجة الثانية فكانت، وبموازاة الدخول في كابوس العمل الائتلافي، وبسبب وعي المعارضة الذاتي بعدم قدرتها على خوض معركة سياسية ضد النظام، بدأ البحث عن آفاق العمل العام بأدوات ومسميات مغايرة للسياسة البحتة، وجلبَ هذا معه مدخلين أساسيين حلا محل السياسة على الرغم من تناقضهما الجوهري معها.
الأول، هو المتصل بحقوق الإنسان والمجتمع المدني، أما الثاني، فارتبط بشكل أساسي بالثقافة وظاهرة المثقف السياسي (المأزوم والعاجز) بوصفها نمطاً رئيسياً للفاعل السياسي الفرد في المعارضة الشامية. المثقف السياسي النمطي، هو معتقل سابق على خلفية انتمائه لأحد الأحزاب الإيديولوجيّة، مُبتعد عن تنظيمه (أو ما تبقّى من تنظيمه)، ولا يندر وجود خلافات كبيرة معه ومع أفراده. أجرى المثقف السياسي مراجعات قاسية مع ماضيه الإيديولوجي غالباً، ومع نمط التنظيم السياسي الذي نشط فيه (ودفع ثمناً باهظاً لذلك). لكن هذه المُراجعات لم تدفعه للبحث عن أطر جديدة للعمل المشترك وفقاً لخلاصاتها، بل أدّت إلى تعزيز استقلاليته وفردانيته السياسيين ونبذه للأشكال التنظيمية، التي قد تُرى كقيود. إعلاءُ شأن الاستقلالية والفردانية واللاتحزّب نتيجةٌ مهمة من نتائج ربيع دمشق، ودفعت مثقفين سياسيين عدّة، بعضهم ما زال ناشطاً في المعارضة الشامية إلى اليوم، للمواظبة على اتخاذ مواقف انشقاقية وتمييزية متواصلة، تبدو في كثير من الأحيان ناتجة عن رغبة في كسب سمات خاصة وفريدة، أكثر من انبثاقها عن خلاف فكري أو سياسي عميق.
سمة أخرى للمثقف السياسي، خاصة أولئك الذين استمروا في هذا الدور بعد اندلاع ما سُمي بالثورة، نجدها في رفضه لرؤية السياسة كأداة عمل منفردة. إنه لا يُعرّف عن نفسه كسياسي، ولا يتصرّف كسياسي حتى لو كان عضواً في جسم سياسي، بل حتى إن كان قيادياً فيه. أداة عمله الدارجة هي المقالة السياسية، التي يُقدّمها كمُراقب نقدي، حتى وإن كان يكتب عن الأجسام التي ينشط فيها، وربما شارك في تأسيسها وصياغة شكلها وبناء آليات عملها. هناك أعضاء في الائتلاف الوطني، وأحياناً مرشحون لمناصب مهمة فيه، يكتبون مقالات تحليلية عن فشل الائتلاف الوطني وكأنهم مُراقبون خارجيون! وكأن هناك تخوفاً من الدخول في المعمعة السياسية بالكامل وحرق المراكب في الخلف، ولذلك تُستبقى شخصية المثقف كحيّز أمان وملجأ من هذه المعمعة السياسية.
رابعا: ما سُمي بالثورة والشتات
لعل التحدي الأكبر الذي أنتجته ما سُمي بالثورة أمام فرص العمل السياسي الحقيقي، بعد الحرب والدمار والتهجير، يتعلق بتسارع الأحداث وتغيرها المستمر وإدخال البلاد في حالة الاستثناء التي يصعب معها التخطيط والعمل البطيء الممنهج.
تسارعُ الأحداث في بداية ما سُمي بالثورة أدى إلى حالة من التفاؤل بقرب زوال النظام، فتوجهت المعارضة السياسية إلى تكتل ائتلافي يقوم على القواسم المشتركة، وتأجيل كل الأسئلة والعناوين السجالية إلى ما بعد إسقاط هذا النظام. أما حالة الحرب المستمرة اليوم والمسار السياسي المتسارع أحياناً والمتعثر أحياناً أخرى، فتحيل بشكل معاكس إلى حالة من اليأس وعدم الوضوح.
ماذا سيحصل بعد شهر؟ أو بعد عام أو عامين؟ أيّ من الصعوبات الحالية ظرفي وآني ويمكن أن ينتهي أو يخف تأثيره على المدى المنظور، وأيها طويل الأمد ويستدعي إستراتيجية مستدامة؟
ربما بات واضحاً الآن أننا في حديثنا عن تناقضات الكيان الشامي، وإرث العمل السياسي، ركزنا على التحديات الطويلة والبنيوية أمام العمل السياسي، لكننا لا نعتقد أيضاً أن الفاعل السياسي المُرتجى يملك ترف التعالي على المتغيرات والمستجدات اليومية، بل على العكس تماماً، قد يكون تنسيق مواقف مشتركة تجاه ما يحصل على الأرض في الشام-سورية أولاً، وسير العملية التفاوضية في جنيف ثانياً، وحال الشاميين في بلاد الشتات ثالثاً، المدخل المناسب للبدء في سبر فرص العمل السياسي المنتظم.
على مستوى الخارج، هناك ضرورة سياسية ماسة للنظر إلى الشتات الشامي-السوري، على أنه توسّع للمعنى البشري للكيان الشامي-السوري. ليس حجم الشتات الشامي صغيراً كي يُعتبرَ قابلاً للإهمال أو يُنتظرَ منه أن يكون مجرد ملتحق بنواة عمل داخل الحدود، كما أن التفكير في أنه حالة مؤقتة لم يعد صحيحاً ولا مفيداً. هناك شتات شامي بالملايين خارج الكيان الشامي، ولا يُحتمل إلا أن يزيد حجمه في الشهور والسنين القليلة المقبلة، أياً تكن مخرجات الوضع الشامي. ربما لم يتمكّن أهل الشتات من الاستقرار بعد بما يكفي للبحث في إمكانيات إنتاج سياسةٍ تعبّر عن أوضاعهم في بلدان اللجوء، وعن رؤيتهم وآمالهم بخصوص بلدهم، لكن بالإمكان الاعتقاد بأن كتلة بشرية بهذا الحجم ستُنتج، مع الوقت، تعبيراً سياسياً عن نفسها كشتات شامي أمام المشهد السياسي لمختلف بلدان اللجوء، وأيضاً تعبيراً باحثاً عن التأثير في أوضاع بلدهم الأصلي من موقع الفاعل والشريك، وليس الملتحق كجالية فقط.
هذه الأفكار تشكّل تحدياً تنظيمياً وفكرياً لأي فاعل سياسي مستقبلي، إذ عليه ألا يهرب من واقع وجود ظروف مختلفة للشاميين-السوريين، تفرض وجود مصالح ومنطلقات وآمال مختلفة فيما بينها أيضاً: كيف تُنتج المعاني والأُطر الكافية لاحتواء كل هذه الأنواع من الحساسيات والمنطلقات المختلفة، والتي قد تكون متباينة في بعض الأحيان، وكيف تكون هذه الأطر والمعاني منصات تفاوض وتوافق بين هذه الحساسيات والمنطلقات المختلفة. هنا، لا شك، حاجة ماسة للإبداع على المستوى التنظيمي على صعيد المرونة والمساحة.