1

أزمة السياسة والشأن العام في الشامالفاعل السياسي، الأداة الجديدة-شوكت البشارة

نختتم في هذا العدد سلسلة مقالات “الفاعل السياسي” للزميل شوكت البشارة. للعودة الى الحلقة السابقة، يرجى الضغط هنا.
“إذا كانت الأداة الوحيدة لديك هي المطرقة، فإنه من الطبيعي أن تنظر إلى كل شيء على أنه مسمار.”

ثمة مغزىً في هذه المقولة لعالم الاجتماع أبراهام ماسلو، (فيلسوف أمريكي (1918-1993). وردت العبارة في كتابه المنشور عام 1966 بعنوان The Psychology of Science، وأصبحت ركيزةً لما يُسمى في علم الاجتماع بـ “قانون الأداة” وسوف تفيدنا في فهم الظاهرة، مجال البحث، على أكثر من مستوى.

أولاً: في العلاقة بين الأداة (الفاعل السياسي) ووظيفتها:

بشيءٍ من المبالغة لتأكيد المعنى، نريد هنا استخدام الأداة الجديدة، بذاتها، للدلالة على العلاقة بين الأدوات من جهة ووظائفها من جهةٍ أخرى. فحين تبقى الأدوات، في موضوعٍ مثل الفاعل السياسي، محصورةً في المقال والورقة والدراسة المنشورة، يحتمل أن يسود الانطباع، نفسياً وفكرياً، أن المُنتجَ النهائي هو مادةٌ ثقافية مكتوبة، لا أقل ولا أكثر. ومن المُفترض أيضا أن تكون هذه المادة جزءًا من تراكمٍ معرفي يؤدي إلى فعلٍ بشري في نهاية المطاف. لكن الأمر، في مثل هذه الأحوال، يكون، في اللاوعي، منوطاً بأحدٍ آخر، يقوم هو بتلك المهمة عملياً.

إن استقراء الساحة الشامية فيما يتعلق بالانتقال، في مسألة الفاعل السياسي، من التنظير إلى التطبيق، يوحي بأن الطريق طويلٌ بينهما، ويبدو محفوفاً بكثيرٍ من مشاعر الحذر والتوجس والتردد. مع الترجيح بأن السبب يكمن في التحرزات والحسابات الكثيرة والمعقدة التي لا يبدو أن ثمة مخرجاً منها للتعاطي مع الموضوع على المستوى العملي. قد لا يكون تعسفاً أن ننظر إلى الأمر هنا على أنه نوعٌ من انتظار الكمال في جانب التنظير، آخذاً بالاعتبار حساسية الموضوع وطبيعة التجارب السابقة ودرجة الشعور بالمسؤولية. لكن العملية تبدو، مع مرور الأيام، أشبه بانتظار المخلص الذي لن يأتِ أبداً.

في المقابل، تُشكل مجرد النقلة في استخدام الأداة، من المادة المنشورة إلى تلك المرئية / الحوارية، نقلةً ودفعةً نفسيةً وفكرية وعملية، ليس فقط في اتجاه تطوير الحوار حول موضوع الفاعل السياسي، بل وفي التقدم عملياً باتجاهه.
لا يمكن شرح الموضوع هنا بشكلٍ دقيقٍ علمياً دون شيءٍ من المبالغة ومطﱢ الموضوع، كما ذكرنا أعلاه. ففي عملية تكوين فاعلٍ سياسي، ثمة فارقٌ واضح بين كتابة عشرين ورقة عنه، هي
ضروريةٌ بالتأكيد، وبين اجتماع أربعة شباب سوريين؛ شابتين وشابين في الأصح، لا يبلغ أكبرهم خمسة وثلاثين عاماً، للحوار في الموضوع، بطريقةٍ حرةٍ وعفوية، وبشكلٍ يراه ويسمعه المهتمون، وهذا نشاطٌ، لمدة ساعة، لن يصبر عليه إلا مُهتم!

ثمة حرارةٌ إنسانيةٌ إضافية هنا في عملية تحويل الفكرة إلى الواقع تجعل النقلة جليةً، حتى لمن لم يخطر في باله النظر إليها بالطريقة المذكورة في هذه السطور. فنحن نجد أنفسنا إزاء جملة عناصر تدخل، وُفق قوانين الاجتماع البشري، في صلب تلك العملية، وهي عناصر لا تتوافر أبداً في المادة المكتوبة. نحن هنا إزاء بشرٍ نراهم ونسمعهم، يمكن جداً أن يكونوا فاعلين سياسيين، بشكلٍ لا يمكن أن توحي به كلمات مكتوبة. نحن أمام شباب، شباب مثقف، نساء ورجال، يتجادلون عن عوائق تشكيل الفاعل السياسي، يبحثون عن هوية محتملة لذلك الفاعل، وعن هياكله الممكنة، والوسط المحلي والإقليمي والعالمي، السياسي والثقافي والاجتماعي والعسكري، الذي يُشكل الإطار الموضوعي الخارجي الذي سيُعمَل فيه، وغيرها من مسائل تتعلق بالقضية مجال البحث. والإطارُ، النفسي على الأقل، يوحي من خلال آليات التفاعل مع الموضوع بين المتحاورين أنفسهم، وبينهم وبين المتابع المهتم، بأن بضع جلسات من هذا النوع يمكن أن تؤدي إلى بلورة، أو زرع نواة، فكرة عملية تتعلق بموضوعة الفاعل السياسي. وبشكلٍ لا يمكن أن توحي به عشرات المقالات.

هذا ما يبحث عنه كثيرون في الشام المشهد الراهن، بما فيه من فراغٍ هائل يتعلق بالفاعل السياسي. شباب، تنوع، ثقافة، حوار، جدية، اختلاف في الآراء دون خلاف، بحث في قضايا تأسيسية، مقترحات، وهكذا.

ثمة حاجةٌ للتطوير، في هذه المرحلة، في أدوات بحث موضوع الفاعل السياسي كمبدأ. لا يقتصر الأمر، بطبيعة الحال، على الحوارات المرئية كاكتشافٍ فريدٍ سيقود إلى تحقيق الهدف، وإنما نقصد الانتقال إلى نوعٍ ودرجةٍ من الحركة التي تُمثل أُسَّ الفعل والإنجاز البشري، مسترشدةً بالنظر ومقترنةً به على الدوام. ثمة ضرورةٌ للحركة بمعناها الحرفي، عبر فعاليات عملية، اجتماعاً وحواراً وصياغةً للمقترحات العملية، وربما تجريباً، بما يخلق تكاملاً وتحفيزاً لديناميكيات نفسية وفكرية وعملية، غالباً ما تكون دافع الفعل البشري لدى الفرد والجماعة، وبشكلٍ يُطلق شرارة المبادرات والاقتراحات، ويُحرّرُ كمون الفعالية الإنسانية من أسر النص المكتوب المُغلق.

ثانياً: في عوائق ظهور الفاعل السياسي:

من عوائق وجود الفاعل السياسي، “الحالة التطهرية” الموجودة لدى كثيرين من المهتمين بالشأن العام إجمالاً والسياسة تحديداً، حيث تَظهر ضرورة الانخراط في الهياكل السياسية للمعارضة، مثلاً. ولكن من يشعر بتلك الضرورة ينأى بنفسه عن مستلزماتها العملية، خوفاً من التلوث بالأجواء السائدة في تلك الهياكل، ويطلب من الآخرين، التصدي لتلك المهمة. وهناك أيضاً عوامل تبدأ من “انهيار الإيديولوجيات” التي تشكل إطاراً تُبنى فيه رؤية العالم والتحالفات الضرورية للفعل السياسي، وصولاً إلى طغيان مأزق العنف في الواقع الشامي،

بما يجعل كل نشاطٍ إنساني، بعيداً عن البقاء على قيد الحياة، نوعاً من الترف لدى السواد الأعظم من الشاميين. ونستطيع أن نذكر “سلبية التجربة مع الأنظمة والحكومات”، والشعور لدى كثيرين، بأن مساحة النقد تضيق وتتضاءل في ساحة السياسة. وتلك عناصر ينفر البعض منها مفضلين العمل، بسببها، مع من يُشبههم في حقل المجتمع المدني ومؤسساته.

ما من شكٍ أن عوائق ظهور الفاعل السياسي كثيرةٌ ومعقدةٌ ومتداخلة، وأن هذا يصدق في راهن الواقع الشامي، ربما أكثر من أي واقعٍ آخر. لكن من المفيد هنا أن نبحث في بعض المسكوت عنه في هذا الإطار كاجترارنا لذاتنا وعدم تقديم رؤية جديدة، أو سطوة النظام الواحد وفرض بعض السياسيين كواقع حال، لسببٍ أو لآخر. حتى لو كان الموضوع حساساً، لأسباب شخصية وعملية وفكرية (إيديولوجية)، فالحديثُ فيه بصراحةٍ وشفافية منهجيٌ وضروري إذا أردنا الحفاظ على درجةٍ من الجدية والموضوعية في البحث، فلا نتجاهل جوانبَ فيه ذات علاقة، ما من شكٍ أن إغفالها سيجعل البحث ناقصاً. خاصةً حين يكون ما نتحدث عنه ظواهر عملية لها حضورٌ على أرض الواقع، بل ولها تاريخ، مُشتركٌ أحياناً على بعض المستويات، وليست مجرد شعارات وأفكار هامشية ليس لها تأثير في الموضوع. بمعنى أن الهروب من مناقشتها الآن قد يؤدي، على الأرجح، إلى مواجهتها عملياً في المستقبل، والأرجح بشكلٍ سلبي نفسياً وعملياً.

يتبادر لذهن الكثيرين، عما تعنيه كلمة “نحن” عند الحديث عن ضرورة “أن نقوم نحن بتشكيل فاعل سياسي”. إلى أنه يقصد شريحة تنتمي إلى العلمانية الديمقراطية، وأن مثل هذا التأسيس يأتي للتعبير عن رؤيتنا، وبعيداً عن التحالفات والهياكل الائتلافية السابقة والسائدة.

لكن ثمة شرائح ومجموعات شامية، منها ما هو مؤطرٌ بأشكال مختلفة، وهذه فيما نحسب حقيقةٌ لا يمكن إنكارها على مستوى منطلقات الرؤية ومقدماتها الأساسية على الأقل. رغم هذا، يشهد الواقع بأن التواصل، ومعه التعاون والتنسيق، ضئيلٌ بين هذه المجموعات وتلك الشرائح، إن لم يكن مُفتقداً بشكلٍ نهائي.

من هنا نصل إلى السؤال المعقد الذي تحدثنا عنه: لماذا لا تستطيع شرائح الشام، مثقفة وجدية، توجد بين رؤاها تقاطعات واسعة، على الأقل فيما يتعلق بهوية ورؤية الفاعل السياسي، أن تتواصل، فضلاً عن أن تُنسق وتتعاون، حين يتعلق الأمر بهذا الموضوع الخطير والهام وطنياً وسياسياً، ليس فقط بالنسبة للشام وشعبها، بل ولأفراد الشريحة نفسها؟

ما من شكٍ أن ثمة أسباباً ما توجد في ذهن أصحاب العلاقة، وقد يمكن جداً تفهمُها على صعيد التفاصيل. لكن المشكلة في المسألة تتمثل في أن هذا لا يحلُّ العقدة الكبيرة أو يجيب عن المسكوت عنه، التي تفرض نفسها عندما ننقل الظاهرة إلى ساحة العمل العام، حيث مكانها وموقعها الأصيل نهايةَ المطاف. إذ كيف يمكن للشامي المُقتنع بضرورة وجود فاعلٍ سياسي جديد أن يفهم هذا الوضع الغريب، والأرجح الشاذ، في نظره؟
وهل يكون غريباً على الشامي من أهل الإسلام السياسي أن يطرح هذه الظاهرة مثالاً على أزمة رؤية لدى خصومه السياسيين، بل ويتعدى ذلك إلى وصفها على أنها أزمة شخصنة وخلافات ومصالح؟ هل يعني هذا، فيما يعنيه، أن ثمة مشكلةً ثقافية (فوق سياسية، أو ربما تحت سياسية) تؤثر في الشامي، بغض النظر عن ثقافته السياسية، خاصةً عندما يتحرك في ساحة الشأن العام؟

ولكن، في مدخلٍ آخر للنقاش، هل يمكن التفكير بأن الأمر يتعدى المسائل الشخصية، ليكون خلافاً في مضمون الرؤية ذاتها، وهي التي يُعتقد أنها واحدةٌ، على الأقل على مستوى المنطلقات والمفاهيم والمبادئ العامة؟

الواضح أن مثل هذا الوضع يعيد المسألة بأسرها إلى نقطةٍ صفرية تتعلق بحقيقة وجود رؤية علمانية ديمقراطية حداثية يمكن الاتفاق على منطلقاتها ومفاهيمها ومبادئها الرئيسة.

في جميع الأحول، يستمر السؤال الرئيس، مع ما يُفرزه من أسئلةٍ أخرى، محط تساؤلات مشروعة سواء جرى طرحها بشكلٍ موضوعي يبحث عن الحل في نهاية المطاف، أو بخلفيةٍ كيدية وانتقامية. وتبقى الإشكالية بأسرها مفتوحةً تطرح سؤالاً كبيراً، يحتاج بدوره إلى إجابات صريحة، تقتضي تحليلاً جذرياً لمضمونها، في عمليةٍ قد تساعدنا على فهم الجزئية المتعلقة بعوائق ظهور الفاعل السياسي العتيد.

ثالثاً: في هوية الفاعل السياسي:

يطفو مباشرة على السطح مفهوم حول مدى الجماهيرية الممكن، بين الشاميين على الأرض، داخل الشام وفي الشتات، لأي هيكل سياسي يحمل هويةً يسارية / علمانية / ديمقراطية، أو بمعنى، هوية خارجة على توصيفات مثل الإسلام السياسي والإسلاميين.!!

يبدو من استقراء الواقع الشامي أن الإجابة سلبيةٌ على السؤال المذكور.

هل يَنتج هذا عن قناعةٍ لدى الشاميين بأن الإسلام السياسي وأهله يمتلكون الحلول لمشكلاتهم والإجابات لأسئلتهم؟ لا، على وجه التأكيد، خاصةً بعد التجربة المُرة مع هؤلاء في مؤسسات المعارضة السياسية.

هل ينتجُ عن انطباعٍ بأن مناضلين ومقاتلين من خلفيةٍ إسلامية كانوا الغالبية العظمى ممن حمل السلاح دفاعاً عنهم، وهنا يتوجب علينا ألا نعمم هذه الحالة فواقع الحال لأي مراقب بات معروفا، بغض النظر عن ظواهر داعش والقاعدة؟ الاحتمالُ كبير، وأسبابه منطقية.

هل ينتجُ عن شعورٍ بالانتماء إلى الإسلام كهوية وثقافة تاريخية؟ نعم بالتأكيد، وبخلفيةٍ يصعب الجدال فيها.

هل ينتجُ عن افتقاد غير الإسلاميين، من جهة، القدرة على طرح برامج ورؤى ومواقف تظهر فيها ملامح إجابة على الأسئلة وحلول للمشكلات، وتَحملُ، من جهةٍ أخرى، درجةً من الانسجام الحضاري مع تلك الهوية والثقافة، دونما عداءٍ وإقصاء وشعورٍ بالفوقية؟ نعم حتماً. ومن وجهة نظري السبب يكمن بسبب افتقار هذه الجماعات للبرامج والرؤى والقدرة على الطرح، وبسبب رفضهم أي طرح يخالف مفهوم هذه الهوية والثقافة والذي يؤدي عمليا إلى دولة إسلامية.

في الـ”نحن” التي وردت سابقا وسترد في آخر مقالي هذا يكون الحل من خلال طرحنا “نحن” للدولة القومية الديمقراطية التي تحفظ كرامة المواطن والدولة والأديان، ما يجب أن يقنع أي مواطن يطلب الكرامة له ولأبن وطنه بالتساوي.

مرةً أخرى، لا يستند الاستنتاج أعلاه إلى إحصاءات رقمية وتحليلات حسابية، لكننا نحسب أنه يدخل في إطار التحليل الموضوعي النظري للظاهرة، مبنياً على قراءة المشهد العام، وربما بالنسبة لنا، على تجارب شخصية متطاولة مع أجسام المعارضة الشامية وبيئاتها، خاصةً في سنوات ما سميَّ بالثورة.

قد يمكن القول إن هوية الفاعل السياسي وتحديات صياغته تتمحور حول العناصر التالية:
1. المنطلقات النظرية الأساسية،
2. ما فرضته طريقة تعاطي العالم، بنظامه الدولي السياسي والثقافي، مع الثورة الشامية من معطيات فكرية ونفسية وعملية،
3. ثقافة المجتمع الشامي التاريخية،
4. الواقع السياسي والميداني والاجتماعي الشامي المحلي، بمتغيراته المعقدة.

بالجمع بين الفرضيات الكامنة في الفقرتين السابقتين، يمكن الاستنتاج بصعوبة، إن لم يكن استحالةِ، الحصول على قبولٍ جماهيري شعبي شامي بالمعنى المقصود لفاعلٍ سياسي من لونٍ واحد. يَصدقُ هذا، بحق هياكل ومؤسسات الإسلام السياسي، لكنه يصدق أكثر بحق هياكل ومؤسسات تقف كلياً في الجهة المقابلة لها، وعلى النقيض منها. إذ كيف يمكن أخذ المُعطيات والمقتضيات المتعلقة بالعناصر الأربعة أعلاه بعين الاعتبار جميعاً، وهي كثيرةٌ ومُعقَّدة، وحشرُها، خلال عملية تكوين أي فاعلٍ سياسي، في إطار فلسفةٍ سياسية معينة تقليدية (إسلامية أو علمانية أو يسارية..)، ستكون محدودةً مهما كانت، في قدرتها على استيعاب إفرازات الواقع الشامي الفريدة والتعامل معها بشكلٍ إيجابيٍ بنَّاء.

فمع فشل تجربة الإسلاميين الشاميين العملية، والفراغ الذي يخلقه وجود (داعش) و(النصرة) بممارساتهما لدى أصحاب العواطف والخلفية الإسلامية من غير المنخرطين في الشأن السياسي، وافتقاد قدرة العلمانيين الديمقراطيين الحداثيين على تقديم نموذجٍ يكونُ بديلاً في أعين الناس، وحمولة التاريخ الشامي الزاخرة بحكم الشعب تحت عناوين قومية ويسارية وعلمانية وحداثية، وطغيان شعور الشاميين بفشل المنظومة الأخلاقية العالمية في التعامل مع قضيتهم، وهو، في نظرهم، مرتبطٌ بفشلٍ في منظوماتهم السياسية وقواعدها النظرية، مع كل هذا التعقيد، لا يبدو ثمة مخرجٌ سوى في البحث عن نموذجٍ من خارج الصندوق كما يقولون.

لا يستطيع أحدٌ الادعاء بالقدرة على عرض هذا النموذج حالياً فيما نحسب، لكن من الأرجح أنه سيكون نموذجاً جديداً هجيناً أساسه الوطن والمواطنة، وقد يكون (مُفصلاً) على مقاس الحالة الشامية، وسيُنسَجُ بناءً على تفاعل بين النظر والحركة بالمعنى الوارد أعلاه، فيكون بالتالي مولوداً شرعياً للثورة الشامية بمعناها الحقيقي والأصح، أي الثورة على ما سبق لبناء جديد نكون “نحن” الفاعل السياسي الأداة الجديدة فيها.

رابعاً: السياسة في زمن الثورة:

رغم شبهة وجود مفارقةٍ، وربما تَفارُق، بين منطق الثورة ومنطق السياسة، وما يشيع أحياناً عن تناقضٍ بينهما لجهة الفاعلية السياسية للأفراد والمجموعات، إلا أنها بقيت إشارةً هامشية لموضوع هام يُحيل إلى أسئلةٍ يجدر التفكير بها: ما هو توصيف الوضع في الشام اليوم؟ هل لا تزال مجاميع الشاميين النشطاء والمثقفين، العلمانيين الديمقراطيين الحداثيين، تعتبر ما يجري ثورة أو استمراراً لثورة في أقلِّ الأحوال؟؟!!

تبدو الأسئلة ملحّةً لأن من طبائع الأمور أن يكون ثمة اختلافٌ، كبيرٌ ربما، بين السياسة في زمن الثورة والسياسة خارج زمنها. وستظهر من البداية العلاقة بين هذه الأسئلة وبين سياق الحديث عن هوية الفاعل السياسي المُنتظر، وضرورة البحث عنه في مكانٍ ما خارج صندوق الأطر السياسية الجاهزة والمعلبة السائدة، نظرياً وهيكلياً.

هل ننظر للسياسة، مثلاً، كقيادةٍ للثورة و/أو إدارةٍ لها؟ بعيداً عن جلد الذات الذي يُمارس في مثل هذا المقام أحياناً، وبحدٍّ من الموضوعية في التقويم، يحصلُ كلُّ الفاعلين السياسيين الشاميين على علامة رسوب إذا نظرنا إلى السياسة من هذا المدخل، منذ بداية ما سميَّ بالثورة على الأقل. ولئن كان نصيب الإسلاميين شائعاً بين شرائح الشعب وفي أوساط ما يُسمى النخبة، فإن الوقائع تُظهِرُ أن أداء مَن مارس العمل السياسي ممن يَصدرون في ثقافتهم السياسية عن مشارب علمانية، يسارية كانت أو حداثية أو ليبرالية، لم يكن أفضل من نظرائهم الإسلاميين على الإطلاق.

من الضرورة هنا تصحيح انطباعٍ يتعلق بما يُسمى هيمنة الإسلاميين على الأجسام السياسية للثورة منذ بدايتها. التفاصيل كثيرة وهذا ليس مقامها، فيكفي القول إن المجلس الوطني، مثلاً، تشكل كهيكلٍ ائتلافي من سبع مجموعات كان الإخوان المسلمون واحدةً منها، في حين تمثلت البقية في إعلان دمشق والأكراد والآشوريين والحراك الثوري الداخلي والمستقلين (بقيادة برهان غليون)، إضافةً إلى ما كانت تُسمى (مجموعة اسطنبول)، التي انبثقت أصلاً عن (لقاء التنسيق الديمقراطي) الذي ضمَّ مجموعةً وازنة من العلمانيين، بأطيافهم، وبعض الإسلاميين المستقلين. إلى هذا، يعرف الجميع ما حصل بعد تشكيل الائتلاف الوطني بفترة من دخول كتلة علمانية ضخمة فيه وصلت إلى مواقع القيادة سريعاً، وأكثر من مرة.
لسنا هنا في مقام تقييم أشخاص بعينهم من هذا التجمع أو ذاك، وإنما الإشارة إلى استخلاصٍ محدد: إذا كانت السياسة تعني قيادة الثورة أو إدارتها، فإن الفشل هو الصفة التي تَلبسُ جميع الفاعلين السياسيين الشاميين المعنيين بالموضوع على مدى السنوات الماضية.
المفارقة أن ما سُمي بالثورة تحولت تحت أنظار هؤلاء، وفي ظل ظروف خارجية قاهرة لا يمكن تجاهلها، إلى مزيج من فوضى وحربٍ أهلية وصراعٍ إقليمي ودولي تحت اسم (الحرب على الإرهاب). تنبع أهمية الموضوع هنا لأن البحث يتمحور، ابتداءً، حول وجود فاعل سياسي يعمل في مثل هذا الواقع. وإذ تُرَدﱡ هوية هذا الفاعل، وفق أحد الافتراضات، إلى الإطار العلماني الديمقراطي، بعيداً عن الأطر الأخرى، فإن مثل هذا الفاعل يضع نفسه في مواجهة تحدٍ شبه مستحيل. هذا باستقراء مسار الأحداث في الماضي من ناحية، وطبيعة الواقع الراهن وإكراهاته من ناحيةٍ ثانية.

الخلاصة:

ما نريدُ قوله هو أن الاستمرار في اعتبار ما جرى ويجري في الشام في كونه جدلاً ثورةً بالمعنى الحضاري الاستراتيجي الأكثر قرباً لقوانين الاجتماع البشري وتجاربه في هذا المجال، يفرض ثورةً في عملية البحث عن الفاعل السياسي الجديد.

لا مجال هنا للعودة إلى الأطر الجاهزة التقليدية، لا من حيث الإطار النظري ولا فيما يتعلق بالهيكل التنظيمي. في حال استمرارنا بالفرض أنها ثورة فهذه ثورةٌ تحتاج إلى كثيرٍ مما هو جديدٌ ومبدعٌ ومُبتَكَر، وخاصةً فيما يتعلق بمعنى وتعريف السياسة، ووجود الفاعل السياسي. وقد نكون بحاجة لعمليةٍ تتضمن تحضير بيئة الإيديولوجيات ثم المزج والجمع بين مكوناتها، بما يناسب خصوصية الحالة الشامية، للخروج من ذلك بتعريفٍ جديد للسياسة، ومعنى مختلفٍ عن السائد لها، وهويةٍ لفاعلها، ينسجم مع تلك الخصوصية، ويعمل وفق ذلك المعنى وهذا التعريف.

لا يمكن، طبعاً، استبعاد وجود فكرة “نحن”، وما نملك من فلسفة مبتكرة ونظرة جديدة إلى الفن والكون وبقيم الحق والخير والجمال، بحيث يكون المولود الجديد مختلفاً، حتى في غياب الحديث المباشر عن تلك الفكرة. ولئن كان التفكير فيها منطقياً ومشروعاً على الصعيد النفسي، إلا أن طبيعة المهمة التي تنتظر الفاعل السياسي الجديد “نحن” تتصف بدرجات من التعقيد لا يمكن معها توقعُ وجود القدرة على أداء المهمة، وتحديداً مرةً أخرى، لأن إطار ثقافةٍ سياسية واحدة، أياً كانت، لن يكون قادراً على استيعاب عناصر تلك المهمة، بل هضمِها وابتكار الأدوات والسياسات التي تلبي متطلباتها عملياً.

ثورة الشام في حال تم اعتبارها ثورة (وليس بمفهومها الذي طُرح وابتدأت بها وتم الترويج لها) هي مستمرة، وهي تتكشف، وستتكشف، عن أبعاد، على المستوى الإقليمي والدولي، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، لم تكن تخطر في بال من أشعلوها. إنها ثورة لا مهرب في خضمّها من السياسة، ولكن بتعريفٍ يناسب جسدها الكبير الذي لا يمكن حشرهُ في أي نوع من الملابس الجاهزة الضيقة عليها.

وهي ثورةٌ تحتاج إلى فاعلٍ سياسي يُولد من تفاعلٍ وثيق بين النظر والحركة، ومواجهةٍ شجاعة لعوائق ظهوره الحقيقية بُغية تجاوزها، وإدراكٍ عميق لمعنى هويته الجديد، المفارق لإكراهات الهويات السائدة، والجامع لكل من طردتهم تلك الهويات، أو هربوا منها، بعد أن أثبتت أنها لا تنتمي ابتداءً إلى زمن الثورة. بل هي موجودة منذ قرون في نفسية السوري الذي يبحث عن الكمال والصلاح والقيم الجميلة.
في الختام:
إن لم نكن “نحن” أبناء الحياة السوريون، بما نملك من رصيد كبير وضخم جدًا، وهبنا إياه باعث نهضتنا أنطون سعاده، الفاعل السياسي (الأداة الجديدة) للقادم من الأيام في خضم ما نشهده من متغيرات وأحداث محلياً عربياً إقليماً ودولياً. فأبشركم بسبات لمئات من الأعوام القادمة.