أربع سنوات من المغامرة – يَرقات* الثقافة الميتة
عاهدت نفسي خلال الأشهر القليلة الماضية أن لا أخوض بتاتاً في “الجدال” الدائر حول “أزمة” الحزب السوري القومي الاجتماعي. ليس لأني أنفي وجود أزمة في الحزب، بل هي واضحة للعيان ومتجذرة. وليس لأني لا أملك رأياً فيها، بل عندي الكثير لقوله. السبب الأساسي الذي دفعني إلى التزام الصمت هو أنه لم يبق أحدٌ، لا داخل الحزب ولا خارجه، إلا وأمعن في التوصيف والتحليل والاستنتاج والتصويب في كل الاتجاهات. بحيث أن طبخة الحل، إذا توافر مثل ذلك الحل، شاطت من كثرة الطباخين. وفي مطابخ وسائل التواصل الاجتماعي المنفلتة، حيث تسود نوازع “حارة كل مين إيدو إلو”، سيكون من الأفضل التروي ريثما تتكشف طبخة البحص… عن بحص مطبوخ.
ولست الآن بصدد خرق تعهدي الحازم، لولا أن معمعة “النقاش” في الآونة الأخيرة استهدفت النشاط الثقافي في الحزب، وبالتالي المثقفين القوميين الاجتماعيين. فإذ بنا أمام حملة تنعى الثقافة القومية الاجتماعية. ووصلت الخفة بهؤلاء الناعين إلى حد الزعم بأنهم يفتشون بالفتيل والسراج عن مثقفين قوميين اجتماعيين، فلا يعثرون على أحد! وهم إن تكرموا علينا وتساهلوا في أحكامهم، أعلنوا بالفم الملآن حكماً مبرماً ينص على أن وجود المثقفين القوميين الاجتماعيين بالكاد يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
إن هذه الكلمات التي أطلقت من عقالها مسّت وتراً حساساً في نفسي. ذلك أن بعض الرفقاء والأصدقاء يرون أنني “مثقف”. بينما أميل أنا إلى القول إنني أتمشى على حدود الثقافة، وأحاول التعبير عمّا أسبغته عليّ العقيدة القومية الاجتماعية من ملامح فكرية وثقافية. أصيب مرات وأخطئ مرات. لكن في كل الأحوال، ما يُحدد اتجاه بوصلة نشاطاتي هو الإيمان المطلق بعقيدة سعاده المنطلقة من الشرع الأعلى الذي هو العقل.
بين العام 2009 والعام 2021 (الحالي) أصدرتُ حوالي 14 كتاباً، بين تأليف وتحرير وتحقيق. القسم الأكبر منها حَظي بتغطية صحافية وتلفزيونية لا بأس بها، ربما بعامل المشاركة في مهنة الصحافة عملاً بالمثل المعروف “حكلي تَ حكلك”! ومع ذلك أعتقد أن بعضها على الأقل أثرّ بالرفقاء والمواطنين المقربين الذين تكبدوا عناء الشراء. أما كيف عرفت ذلك، فمن الاتصالات والرسائل والتعليقات التي سمعتها منهم مباشرة… وفي بعضها انتقادات قاسية طبعاً.
سردتُ هذه التفاصيل كي أصل إلى ما اكتشفته على مر السنين، وأحدث لي صدمة موجعة.
الغالبية العظمى من الذين يصنفون أنفسهم “مثقفين”، ويقيمون ذواتهم قضاة في دواوين التفتيش والنقد والتقييم، لم يقرأوا كتبي أو كتب غيري من المؤلفين القوميين الاجتماعيين.
في حواراتي مع هؤلاء، كنت أشير عرضاً إلى حادثة أو فكرة وردت في أحد مؤلفاتي. لأفاجأ بمحدثي وهو يقلب شفتيه ويزمّ ما بين عينيه ويفرك كفيه ويلولح بيديه علامة عدم السماع حتى باسم الكتاب. وقبل أن يبادر أحدهم إلى الاحتجاج بأن كتبي قد لا تستحق مثل هذا الاهتمام، أسارع إلى القول إن هؤلاء المدّعين يجهلون تماماً أن كتابات الدكتور خليل سعاده صدرت في خمسة مجلدات حتى الآن. فإذا كان حامل نعت الثقافة لا يقرأ إصدارات رفقائه، فكيف يتوقع أن ينمو الجسم الثقافي في الحزب؟
في مطلع سبعينات القرن الماضي كنت أتبع إدارياً مديرية برج حمود الثانية في منفذية الضاحية الشرقية. التركيبة الاجتماعية لسكان المنطقة تتكون من العمال والمياومين وممزقي الثياب. ولم تختلف عائلتي عن الآخرين إلا في أني كنت أتابع الدراسة وأعمل في الوقت نفسه. وأذكر بوضوح أن المديرية كانت تطلب من مكتب المطبوعات المركزي نسخاً عدة من كل كتاب حزبي جديد، نشتريه رغم ضيق ذات اليد، ونقتنيه بفخر، ونقرأه باهتمام، ونعيره للمواطنين كمادة إذاعية فاعلة.
أعترف بأن بعض الكتب آنذاك كانت “أعقد” من أن تستوعبها كلياً علومنا المحدودة. ومع ذلك كنتَ تجد في بيت كل رفيق نواة مكتبة حزبية صغيرة، لكنها تنمو شيئاً فشيئاً. حتى أن خصومنا كانوا يهزأون بنا بعبارة إن القوميين يشترون أي كتاب يصدره الحزب حتى لو كان موضوعه “يا جمل يا بوبعة”!
كما أعترف الآن، بعد خمس وأربعين سنة في الإعلام والكتابة والنشاط الثقافي، أن رفقاء مديرية برج حمود الثانية كانوا ـ من ضمن ظروفهم الصعبة ـ أكثر تجذراً في إيمانهم وفهمهم ووعيهم من مدمني وسائل التواصل الاجتماعي الذين جرفتهم “ثقافة الأصابع المتهورة”، فانعزلوا في شرانق ثقافية مغلقة تجتر ذاتها حتى الموات الأخير.
*اليرقة هي دودة الحرير التي تُخنق داخل الشرنقة قبل أن تتحول إلى فراشة.