1

أربع سنوات من المغامرة -حيث حطّنا الجمّال، لبنان نموذجا – نجيب نصير

لا يأخذ لبنان أنموذجيته، من كونه “مجتمعاً” ناجزاً، أو قائماً بذاته، بل ربما كانت هذه الصفة هي الأقل حضوراً في ما وصف به هذا الكيان. فلبنان، كغيره من البلدان “العربية”، لم يصل إلى صيغة مجتمعية حاسمة ناتجة عن إرادة شعب يعلن انتمائه الواضح إلى مصالحه.

صفتان تجعلان لبنان قابلا أن يكون أنموذجاً، وهما الحرية النسبية التي ينعم بها أهله، على الرغم من النقصان الفادح في الديموقراطية، والأخرى هي كمية الخزين المعرفي التفاعلي النشط لسكانه، عبر انفتاح علاقاته الثقافية شرقا وغربا، ما شكل منه تربة صالحة لانبات الإبداع والفكر والفن في جنباته.

أنموذجية لبنان المقصودة هنا نابعة من الصفتين السابقتين، وتتعلق برؤية “ثورة” 17 تشرين الأول 2019، كآخر مستجدات “الربيع” العربي، أو ربما  كآخر مستجدات حراك السترات الصفراء أيضاً، التي يصرّ كثرٌ على تسميتها ثورة، كما يصر كثرٌ آخرون على العكس. لتبدو التسمية نفسها تشريفية، أكثر منها فعلية، تسمية تنبع من المجاز التصارعي اللغوي، بين حالتين تمتلكان ذات الأبعاد الحلمية الأمنياتية هما ” الدولة” و” الثورة”. بداية من الصراع حول المالك لهما كل على حدة، وليس انتهاء بالمصارعة الحرة بينهما.

تمايز الأنموذج اللبناني يأتي من علانيته، مما يتيح معلومات تفيد في تفحص الحالة وإبداء الرأي فيها. فالكل يتصرف بعلانية يمكن بسهولة قراءة ما وراءها من أعطاب ومزايا تستشرف النتائج دون أن تكون هذه النتائج مرجوة. فالصراع “الدولتي”/ “الشعبي”، لن يسفر عن غالب ومغلوب، لصالح الطرفين معاً، وهذا هو المطلوب من أية “ثورة” وأية “دولة”، لإستعادة دوريهما التطبيقي في التخطيط والإدارة. بل سوف يسفر عن مناكدة سياسية، يتم فيها هدر الغالي والنفيس من خزين البلاد وسكانها. ولعل نتائج “الثورات” العربية، السلمي منها والمسلح، يذكرنا بالمآل الخطر الذي يمكن أن تصل إليه هكذا ثورات لا تعتمد الحد الأدنى من القيم المجتمعية، المقصود بها المساواة التامة بين مواطنين.

الكل في لبنان يعرف أن هذه المساواة لن يحصل بالمبدأ في ظل سكان منقسمين حزبياً على أساس طائفي، بل ومذهبي، يشاركون بـ”ثورة” ضد من انتخبوهم هم وأحزابهم هم، ولسوف ينتخبوهم ثانية وثالثة ورابعة. وسيلجأون إلى ما تلجأ إليه السلطات ” المنتخَبة” من عمليات سياسية مكررين، الأسباب الموجبة “للثورة”. وهذا ما كشفته الأحداث من 17 تشرين 2019 حتى اليوم. فوقود فعاليات الثورة هم السكان الموجوعون فعلاً من أداء السلطة (الدولة). هم أنفسهم أعضاء أحزاب السلطة نفسها، إلا كم ضئيل من مجموعات مدنية متصارعة بلؤم فيما بينها، بما تمثله من توجهات ثقافية أو سياسية، تبدو بالنسبة لجمهور الأحزاب وكذلك للسلطة، غرائبية ويمكن ببساطة إكتشاف مرجعياتها. وعليه،  تبدو ” الثورة” على أرض الواقع، صراع أحزاب وتيارات سياسية تدين ويعاقب بعضها بعضا في نكايات سياسية حاقدة ومجنونة، خصوصاً مع اعترافات أهل السلطة أنهم هم “الثورة” وغايتها هي نفسها غايتهم، ولكن على مقاس تفسيرات دستورية تناسبهم. ويكررون أن “الثورة” هي فعلهم القادم في حال تروّي السكان وانتظار نتائج “ثورة” السلطات على نفسها، التي يمكن وصفها بـ “العقلانية”، مقارنة بتلك الغوغائية، على أن يتم تأجيلها إلى حين ميسرة.

“الدولة”، تماماً كما “الثورة” عليها أن تدافع عن نفسها. وفي حالاتنا العربية هذه، عليها القيام بثورة مضادة أولاً، كي تفسح المجال لثورتها الذاتية ليصبح على الأرض ثورتان تقعان في مأزق اللاحل. ولكن الثورة على من؟ إذا قدّمت الدولة، وهي الأقوى، إصلاحات مرضية لأهل “الثورة”، سوف  تنهاروتنهزم. وإذا واجهتها بأسلحة “الدولة” سينهار البلد. وهنا لا نتفاجأ بخيارين: الأول، هو استعداد السلطات للمقامرة بالبلد إذ ليس من حدود لمكر الساسة و قسوتهم، خصوصاً أن لا معايير للفشل والنجاح تحكم هذه العلاقة. فالدولة هي أشخاص فقط، يمارسون السياسة بمهارة أصحاب شركة سياسية، يتضاغطون وينفرجون، حسب مصالح نجاحهم. فإذا لم ينفع القمع الفيزيائي هنا وهناك، فيمكن للقمع المالي والاقتصادي والخدمي أن يفعل فعله، وبإضافة كورونا، يمكننا تخيل ثورة مضادة نموذجية.

هنا نشير إلى البعد الأخلاقي للممارسة السياسية. صحيح أن الناس ومنهم السياسيون ليسوا ملائكة، ولكن عليهم أن يتحلوا بمنطق أخلاقي متين ومخلص للطروحات التي يسوقونها. حيث نرى رداً فاقع التناقض، على شعار ( كلن يعني كلن) الذي يتبناه الجميع، فقط حينما يصبح ( كلن عدا أنا) ويتمدد قليلاً ليصبح ( كلن، عدا الزعيم وحزبه وبيئته). هنا يبدو مقصوداً أن تصبح “الثورة” نفسها ثورة مضادة، ليس بسبب “الخلطبيطة” الشعبية بين السلطات و”الثوار”، بل بسبب عدم وجود ناظم حقوقي/ دستوري لإخلاقيات ممارسة السياسة.

الثاني: هو أن تبدو “الثورة” بمثابة الصورة المقابلة للسلطة، (كونتر تيب)، من حيث أساليبها ومرجعياتها وأطروحتها. إنها تعتمد على جمهور الأحزاب الذين من حقهم كأفراد أن يعبروا عن مواجعهم، لكنهم لا يستطيعون ذلك بسبب الانضواء في مخططات مرجعياتهم الحزبية التقليدية. فإن نجحت “الثورة”، سوف تعود مجبرة إلى ممارسة نفس ممارسات السلطة، نظراً لبنيتها غير المجتمعية ( بالمعنى المعاصر طبعاً)، إن كان من ناحية التحاصصية، وبالتالي الزبائنية، أو من ناحية الممارسات السياسية الإعلامية، التي تقود بشكل أو بآخر، إلى الاستثمار في المشاريع السياسوية، من إعمار وخدمات وتعليم وصحة وطاقة..إلخ. فالحزبية بشكلها الحالي، موافقة تماماً على ممارسات تفسير الدستور المواربة ( ومنها القوانين، والتشريعات، والسوابق). فإذا لم يعد هذا التفسير بيد الحاكم بأمره الآن، فسوف يكون لاحقاً بيد “الثورة” و”الثوار” من الحزبيين ليفسروه وفق مصالحهم أيضاً.

هذا ما حصل في تونس ومصر والسودان على الأقل، ولم يحصل في لبنان على الرغم، من الممارسات السلمية “للثوار”. إلا أن النتيجة هي ذاتها التي وصلت إليها “الثورات” المسلحة في العالم العربي، من حيث إنهيار البنية التشغيلية لـ”الدولة”، بسبب معاقبة السكان الخارجين عن طوع أسيادهم  بعقوبات مثل الفاقة والمرض، وفقدان الأمان. وهي مرحلة تمهيدية لإستباحة الإرادة والكرامة والحرية والمساواة بما يمكن إعتباره ضرب  إستباقي تحت الحزام.

لا شك أن الحراكات المجتمعية والعصيانات المدنية لها صيغة حقوقية واضحة وتؤدي إلى نتائج من خلال هذه الصيغة. فلهذه الحراكات نسيج منطقي في التعبير عن الرأي يشير إلى الخلل الواضح، ويدعو السلطة للإستجابة معرفياً لما يطرحه هذا الرأي. أي أنه مؤشر يوازي الإنتخابات الحرة. فبالمنطق الحقوقي المجتمعي يمكن رفض المحاصصات الطائفية مثلاً فإنها خطيئة معروفة بالضرورة. أما في الواقع، فالسلطة وهي تتأبط الدستور، تبدو غير معنية بذلك على الإطلاق. تاركة الخيار “للثورات” باللجوء إلى الحرب الأهلية الطائفية التي لا تبق ولا تذر، تحت تبرير دفاع “الدولة” عن نفسها، كذريعة لاستخدام كافة الأدوات والأساليب مهما كانت من أجل الحماية الذاتية. فعلى الرغم من منطقية طلب “الثورة” أي صوابه المصلحي، لن تستجيب هكذا سلطات لا للمنطق، ولا لأخلاقيات ممارسة السياسة، خصوصاً أن خلفية منطق هذه الثورات، هي حزبية، أي طوائفية. وهنا يتناقض الموقف المجتمعي مع الموقف الاجتماعي، خصوصاً في عالم يمور بالتنافس على المصالح، وتقاسم النفوذ، حيث لا أحد يقيم حساباً لمصائر السكان. فالمهم عندهم هي مصالح القيادات التي تراعي مصالحهم الزبائنية ( ومن دهنو سقّيلو) أي ما دامت التكلفة تدفع من جيوب سكان البلد، فليكن ما يكون.

وهكذا تمر “الثورة” اللبنانية بكل ما مرت به “ثورات الربيع العربي”، انتهاءً بانتصار الثورات المضادة، وليس هناك من سبب أقوى، من أن الدولة المعاصرة بصفتها البنية الثقافية العليا، تنبثق عن مجتمع معاصر ينبثق عن المساواة التامة والنهائية بين أعضائه. هذا ما تفتقده السكانيات العربية جميعها، وليس لبنان وحده يواجه هذا الاستحقاق المتأخر دوماً، استحقاق المجتمع والدولة.

هنا حطّنا الجمّال، وسوف يظل يحطّنا هنا، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا، ما دام عدم الرضوخ للثقافة الحقوقية المعاصرة هو السائد، مشكّلاً هذه السيرة الاجترارية لواقع هذه التجمعات السكانية.