وطنُ الأساطير-رامي جلبوط
في العام 1990 صدر في فرنسا قانونٌ جديدٌ أُطلِق عليه اسم قانون “غيسو”،Gayssot Act
نسبةً إلى عرّاب القانون السياسي الفرنسي جان كلود غيسو “Jean- Claude Gayssot” عضو الحزب الشيوعي الفرنسي، وفرضَ هذا القانون عقوبات قاسية على إنكار وجود أو حجم الجرائم ضد الإنسانيَّة التي عرَّفها ميثاق لندن لعام 1945 في مادته التاسعة، والتي خضع على أساسها قادة الحزب النازي للمحاكمة العسكريَّة الدوليَّة في نورنبرغ بين عامي 1945 و1946. أي أنَّ القانون باختصار يعاقب من ينكر وجود أو حجم المحرقة النازيَّة المعروفة بـ الهولوكوست. لم يكن قانون “غيسو” هو القانون الأوَّل من نوعه؛ لكنه كان الأهم من جهة أهميَّة الدَّولة التي أصدرته، وصرامة العقوبات التي فرضها، وتكريس المصطلحات التي استعملها، فقد استعمل القانون في متنه مرات عديدةٍ مصطلح “معاداة الساميَّة”، و”جرائم ضدَّ الساميَّة”. ولكن؛ ماذا تعني معاداة الساميَّة؟ ومن أين أتى هذا المصطلح؟
في الحقيقة تعبير “معاداة الساميَّة” ليس تعبيراً جديداً، ولم يكن قانون “غيسو” هو الذي ابتدعه، وقد مرَّ خلال تطور استخدامه إلى حين وصوله اليوم للتعبير عن “معاداة اليهود” بمراحل متعددةٍ، فقد بدأ مع المفكر النمساوي اليهودي “موريتز ستاينشايدر Moritz Steinchneider، (1816-1907)، الذي استخدمه لكونه تعبيراً يصف عن طريقه آراء الفيلسوف الفرنسي “إرنست رينان Josef Ernest Renan ” بأنَّها تحمل “التَّعصب ضدَّ الساميَّة” وكيف أنَّ الأعراق الآريَّة أسمى من الأعراق الساميَّة، وصولاً إلى دلالات المصطلح اليوم بكونه تعبيراً يصف كراهية أو معاداة اليهود Anti- Semitism. ولكن ماذا تعني الساميَّة؟ من أين جاءت هذه الكلمة؟
الساميَّة منسوبةٌ إلى سام، واحدٌ من أشهر أبناء نوح الثلاثة، الإخوة سام وحام ويافث. تقول التوراة إنَّ نوح صاحب الطوفان، قد تبعَه ثلاثة من أبنائه، وهم سام وحام ويافث، ومن هؤلاء تناسل البشر بعد الطوفان. طبعاً كان لدى نوح أبناء آخرين لكنهم لم يتبعوه وغرقوا، وأشهر هؤلاء كنعان.
وبحسب التوراة فإنَّ اليهود هم أبناء سام بن نوح، بينما أنجب حام كنعان -غير عمه الذي غرق في الطوفان- الذي لعنه نوح بعدما صحا من سكرته، وعرف أنَّ ابنه حام قد رآه عارياً، فلعن ولده.
وكنعان هو أب الكنعانيين وبقية الأقوام التي تُشكِّل أجدادنا بحسب التوراة، في حين جاءت الشعوب الأوربيّة من نسل يافث ولد حام الثالث الصغير. ومنه، فإنَّ اليهود ساميون لأنَّهم ينحدرون من سام؛ إذ إنَّ إبراهيم أحد أحفاده، ومن إبراهيم إلى إسحق ومنه إلى يعقوب وصولاً إلى موسى، ومن بعده داوود الملك ثمَّ سليمان اللذين أسسا يهوذا والسامرة على أرض فلسطين، من هنا جاءت إذاً تسمية الساميَّة وأصبحت تشير إلى اليهود، وسنعود إليها لاحقاً. وحتى تتوضح الفكرة بصورةٍ أفضل سنلخص الأحداث التي سردتها التوراة في هذا الصدد بسرعةٍ. تناسل أبناء سام بن نوح بعد الطوفان، ليأتي منهم بعد 350 عاماً من الطوفان إبراهيم الذي كان يسكن مدينة أور، وكان تقياً ورعاً. وعندما طلب منه يهوه التِّرحال في الأرض لم يتردد وترك أور، وسافر يضرب في الأرض حتى وصل أرض كنعان، وهناك قطع يهوه عهداً على نفسه أمام إبراهيم أن يُملكه أرض كنعان، وأن تتملك ذريته الأرض وتكون أمة عظيمة.
وحسب التوراة، من إبراهيم جاء إسحق ويعقوب وصولاً إلى موسى الذي جدد يهوه معه العهد بمنحه أرض كنعان، واستطاع أحفاده فيما بعد تأسيس مملكة عظيمة عاصمتها “أورشليم” التي أصبحت مدينة كبيرة؛ إذ جعل منها داوود الملك مملكة شاسعة الأرجاء وذلك كله بمباركة الرب يهوه، ومن بعده ابنه سليمان الذي ذاع صيته في أنحاء الأرض كلها؛ فكان يكلم الحيوانات، وخضعت لطاعته قوى الجان والمملكة والمناطق جميعها التي كانت تحت نفوذها بما فيها من حيوانات وجان لتأتمر بأمره! وبنى سليمان الهيكل في “أورشليم”، وبعد وفاته تعرضت المملكة العظيمة لهجومٍ كبيرٍ من الآشوريين بقيادة “سنحاريب”، وتبعه هجوم شامل قضى على المملكة بقيادة الملك البابلي “نبوخذ نصر” الذي جرَّ معه اليهود إلى بابل أسرى، وسمي فيما بعد بـ السبي البابلي.
كان من الممكن أن تكون هذه القصة واحدة من القصص العادية التي تعج بها كتب التاريخ على مرِّ العصور، فالباحث المتعمق في قراءة الآثار سيجد كثيراً من القصص التي كان سكان الأرض فيها يندرجون تحت أنواع ثلاثة (آلهة، وأنصاف الآلهة، والبشر)، وكان ظهور أنصاف الآلهة نتيجة تزاوج الآلهة مع البشر، وكان من الممكن أن يكون موقع هذه الرواية في التراث الإنساني مماثلاً لموقع ملحمة جلجامش أو الإلياذة والأوديسة.
روايات حفظها البشر على مدى التاريخ للعبر التي فيها، غير أنَّها كانت فيما بعد أساساً استند إليه المستفيدون؛ بهدف إحداث الشق والشرخ في الشرق عبر صناعة الكيان الصهيوني، مما يضمن بقاء المنطقة في حالة اشتعال وحروب لا تنتهي، لتكون نتيجتها اقتلاع شعب برمته من أرضه، ومئات آلاف الضحايا، وكثير من الدم المسفوك، وضياع كامل للحقوق.
أين المشكلة؟
تكمن المشكلة في أنه، وحتى هذه اللحظة، لا يوجد أيّ دليل علمي أو أثري على حدوث القصة التي نسردها هاهنا! فحتى اليوم لم يستطع علماء الآثار – ومن ضمنهم العلماء اليهود – اكتشافَ دليل علمي حقيقي واحد، واحدٌ فقط، يشير -سواءً أكان تصريحاً أم تلميحاً – إلى أنَّه في يومٍ من الأيام وعلى هذه الأرض قد عاش رجلٌ اسمه إبراهيم، وخلَفه من بعده ولده إسحق، ومن ذريته أتى ملكٌ اسمه داوود، وتبعَه ملك جبار اسمه سليمان. كلّ هذه الرواية لا وجود لها في آثار هذه المنطقة ولا بأيِّ شكلٍ من الأشكال، على الرغم من التنقيبات والحفريات الأثريَّة الحثيثة التي بدأ بها المستفيدون منذ مطلع القرن التاسع عشر، وتابع بها الكيان المحتل إلى يومنا هذا.
ففي كتاب بعنوان “كشف التوراة”، “The Bible Unearthed” لكل من عالم الآثار الإسرائيلي الشهير “إسرائيل فنكلشتاين Israel Finklestein ” الأستاذ في جامعة تل أبيب، ونييل آشر سلفرمان، Neil Asher Silverman، نقرأ ما يلي: “إن أهم قصص التوراة وأكثره شهرة لم تحصل. إن القصة التوراتية عن الآباء المؤسسين، البطاركة، (أي إبراهيم واسحاق ويعقوب) ويوسف وموسى وأحداث سفر الخروج، كلها تشل إنجازا أدبيا مهما ولكنها ليست تاريخا. بل إن قصة معركة أريحا كما هي في التوراة ليست سوى سراب رومنطيقي. في الحقيقة إن معظم كتاب التوراة قد وضع في القرن السابع قبل الميلاد وهو نتيجة آمال ومخاوف وطموحات مملكة يهوذا.”
في الحقيقة لم يكن “فنكلشتاين” العالم الأوَّل من نوعه في هذا الطرح، فقد سبقه إليه علماء آثار آخرون معظمهم من اليهود؛ إذ ناقش المؤرخ البريطاني “كيث وايتلام Keith W. Whitlam ” في كتابه “اختلاق إسرائيل القديمة “The invention of Ancient Israel” هذه المسألة بالتفصيل، ومن أشهر هؤلاء العلماء “توماس طومسون Thomas L. Thompson” الذي طُرِد من جامعة ماركويت في ملووكي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، والتي كان يدرس فيها بعد صدور كتابه الذي أثار جدلاً واسعاً بعنوان: “التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي على ضوء المكتشفات والمصادر الأثريَّةEarly History of the Israelite People from the Written & Archaeological Sources ، الذي قال فيه إنَّ مجموع التاريخ الغربي “لإسرائيل وللإسرائيليين” يستند في العهد القديم إلى قصصٍ من صنع الخيال.
أصواتٌ كثيرةٌ صرخت في وجه الكذب والتضليل، وعقولٌ مهمةٌ لم تتوانى عن كشف الخداع والتزوير الذي أسهم فيه -ولسنوات طويلةٍ للأسف- بعض من أبناء جلدتنا، حين قدَّموا أنفسهم على أنَّهم باحثون في التاريخ، وانطلقوا من المصدر نفسه الذي انطلق منه المزورون؛ في أنَّ التوراة هي المصدر الأقدم لتاريخ المنطقة، متجاهلين الحقائق جميعها التي تدحض هذه الادعاءات. أمام تعالي هذه الأصوات، التي بدأت تصدح في كشف ألاعيب الصهيونيَّة وتزييفها للحقائق، سارعت الصهيونيَّة العالميَّة إلى ابتداع سلاح “معاداة الساميَّة” هذا السلاح القائم على الأسطورة نفسها، والذي أشهرته في وجه كلّ من علا صوته أو حاول أن يكشف الزيف، واستطاعت فرض قوانين صارمة في كثيرٍ من دول العالم كما ذكرنا أعلاه.
وللحديث عن هذا تتمة…