1

وزارة الأوقاف والمرسوم 16 من منظور قومي اجتماعي

هذا المقال يتناول موضوع وزارة الأوقاف والمرسوم 16 المثير للجدل، ليس في مواد المرسوم وتفاصيله فقط بل في العوامل والمبادئ الدستورية التي قامت عليها الدولة السورية الحالية وأدت الى إنشاء وزارة الأوقاف وبالتالي إلى إصدار مرسوم تنظيمها وتحديد صلاحياتها.

أولا: سورية – الشام هي الآن دولة أسلامية وليست جمهورية ديموقراطية.

الدستور السوري الحالي ينص على متناقضات يراها بداهة أي طالب حقوق وعلوم سياسية. فمن ناحية ينص على أن سورية جمهورية ديموقراطية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق السياسية والمدنية، ومن ناحية أخرى ينص على أن دين رئيس الدولة الاسلام، أي أن من لا يتخذ الاسلام ديناً من السوريين، ويقصد هنا الإسلام المحمدي تحديداً، لا يحق له أن يكون رئيساً للدولة، مما يتعارض مع مبدأ الجمهورية والديموقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات التي ينص عليها الدستور ذاته.

فضلاً عن ذلك، ينص الدستور السوري الحالي على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، علماً أن المجتمع السوري هو مجتمع متنوع ومتعدد الأديان والطوائف والمذاهب، ولكل طائفة ومذهب ديني نظرته ومفاهيمه المختلفة إلى شؤون الحقوق والأحوال الشخصية والمدنية. وهذا يعني هيمنة الفقه الإسلامي، السني تحديداً، على القانون السوري الذي يتناول هذه الشؤون. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أن السوري المسيحي في ظل الوضع القائم حالياً لا يحق له أن يحب ويتزوج سورية مسلمة، وإذا فعل فالحكومة السورية لا تعترف بزواجه ولا تعطيه شهادة زواج.

إن ذلك يسمح لنا بالقول إن الدولة السورية هي دولة إسلامية في مجتمع متعدد الأديان والمذاهب، مما يعني أن الدولة السورية اليوم ليست جمهورية وليست ديموقراطية. الدولة الدينية الإسلامية يمكن أن تكون جمهورية ديموقراطية في حالة واحدة وحيدة هي أن يكون المجتمع مؤلف من مذهب ديني إسلامي واحد وحيد، وهذا لا ينطبق على سورية.

ثانيا: فصل الدين عن الدولة والفرص الضائعة

منذ سنة 1932، أي منذ 88 سنة، وضع سعاده المبدأ الإصلاحي الأول الذي يقول: “فصل الدين عن الدولة”. وفي مستهل شرحه لهذا المبدأ يقول:

“إن أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية وفلاحنا القومي هي تعلق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية وتشبث المراجع الدينية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة وقبضها على زمام سلطاتها أو بعض سلطاتها على الأقل. والحقيقة ان معارك التحرر البشري الكبرى كانت تلك التي قامت بين مصالح الأمم ومصالح المؤسسات الدينية المتشبثة بمبدأ الحق الإلهي والشرع الإلهي في حكم الشعوب والقضاء فيها. وهو مبدأ خطر استعبد الشعوب للمؤسسات الدينية إستعباداً أرهقها… إن فكرة الجامعة الدينية السياسية منافية للقومية عموماً وللقومية السورية خصوصاً. فتمسك السوريين المسيحيين بالجامعة الدينية السياسية يجعل منهم مجموعاً ذا مصلحة متضاربة مع مصالح مجاميع دينية أخرى ضمن الوطن ويعرّض مصالحهم للذوبان في مصالح الشعوب الخارجية التي تربطهم بها رابطة الدين. وكذلك تشبث السوريين المحمديين بالجامعة الدينية السياسية يعرّض مصالحهم للتضارب مع أبناء وطنهم الذين هم من غير دينهم والتلاشي في مصالح الجامعة الكبرى المعرّضة لتقلبات غلبة العصبيات، كما تلاشت في العهد العباسي والعهد التركي. ليس من نتيجة للقول بالجامعة الدينية السياسية سوى تفكك الوحدة القومية والانخذال في ميدان الحياة القومية….إن الوحدة القومية لا يمكن أن تتم على أساس جعل الدولة القومية دولة دينية، لأن الحقوق والمصالح تصبح حقوقاً ومصالح دينية، أي حقوق ومصالح الجماعة الدينية المسيطرة. وحيث تكون المصالح والحقوق مصالح وحقوق الجماعة الدينية تنتفي الحقوق والمصالح القومية التي تعتبر أبناء الامة الواحدة مشتركين في مصالح واحدة وحقوق واحدة. وبدون وحدة المصالح ووحدة الحقوق لا يمكن أن تتولد وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية”.

كان لا بد من هذا التمهيد لفهم الأسباب والعوامل الأساسية التي أدت إلى المشهد الحالي من تشظي السوريين وضعف وجدانهم القومي – الوطني وسماحهم بتمكين المصالح والإرادات الخارجية من العبث في وحدتهم وتهديد سيادتهم على وطنهم. فالسوريون أضاعوا فرصة فصل الدين عن الدولة أربع مرات وهدروا فرصة بناء دولتهم القومية الديموقراطية التي تساوي فعلياً بينهم في الحقوق المدنية والسياسية وتجعلهم مجتمعاً واحداً عصياً على تسرّب المصالح والإرادات الأجنبية إلى وحدتهم ووحدة وطنهم، كالتالي:

الفرصة الأولى كانت في النصف الأول من القرن الماضي حيث كانت سورية تنعتق تدريجياً من السيطرة العثمانية والاحتلال التركي على أساس ديني. فسنة 1928 طُرِح في الجمعية التأسيسية مبدأ فصل الدين عن الدولة، ونشب صراع بين مفهومين: ضرورة أن يكون دين الدولة الإسلام أو عدم ضرورة أن يكون للدولة دين. يومها أفتى السياسي السوري فارس الخوري بما أعتبره حلاً وسطاً وأقترح بأن يكون دين رئيس الدولة الإسلام بدلاً من دين الدولة الإسلام. والحقيقة أنه لا فرق بين القولين، بل أن “دين الدولة الإسلام” قد يكون أرحم وأقل استبداداً ويمكن أعتباره مجازياً أو معنوياً فقط لأنه ليس للدولة دين. أما “دين رئيس الدولة الإسلام” فهو أشد تطرفاً وأكثر تمييزاً في الحقوق السياسية بين السوريين وبالتالي أكثر خطراً على وحدة المجتمع. لكن تم أعتماد دين رئيس الدولة بدل دين الدولة لأن النص الأول لا يلزم أن يكون الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع، أما النص الثاني فيمكن أن يؤدي إلى ذلك. يومها كان فصل الدين عن الدولة أسهل منالاً وكان السوريون مستعدين للقبول به، والدليل أن فارس الخوري نفسه استطاع أن يكون أكثر من مرة رئيساً للبرلمان والحكومة السوريين، وهو المسيحي.

الفرصة الثانية كانت سنة 1950 بعدما نفّذ العقيد أديب الشيشكلي أنقلابه الأول وصار صاحب النفوذ الأول في الجيش والدولة (قبل أن ينفذ انقلابه الثاني ويصبح رئيساً للجمهورية). كان الشيشكلي يُعتبَر آنذاك قومياً أجتماعياً مؤمناً بفصل الدين عن الدولة، وكان للحزب السوري القومي الاجتماعي نائباً في البرلمان السوري عن دمشق هو الأمين عصام المحايري. في ذلك الوقت كان ممثلو الشعب يناقشون مواد الدستور الجديد، وبالتحديد مبدأ دين الدولة الإسلام أو عدم لزوم دين للدولة. ومع أن أديب الشيشكلي كان باستطاعته الدفع باتجاه عدم ضرورة النص على دين الدولة وباستطاعته حسم الموضوع تماماً بما كان يتمتع به من نفوذ وقوة حيث كان يعتبَر الحاكم الفعلي لسورية، فأنه تظاهر بالوقوف على الحياد مفسحأ المجال لادخال نص فارس الخوري “دين رئيس الدولة الإسلام” مع إضافة أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”. وهكذا برهن الشيشكلي أنه لم يكن قومياً إجتماعيا بل منافقاً. وبذلك خطت سورية خطوة الى الوراء، ومنذ ذلك الوقت كان يمكن ملاحظة أن الإرادات الأجنبية التي كانت وراء جميع الانقلابات العسكرية الأربعة التي توالت على سورية منذ انقلاب حسني الزعيم إلى سامي الحناوي إلى أديب الشيشكلي إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، كانت هي من يقرر في المسائل الأساسية التي تتعلق بحياة السوريين ومستقبلهم ومصيرهم.

الفرصة الثالثة التي أتيحت للدولة السورية أن تتحرر من مفاهيم القرون الوسطى وتنعتق من المبدأ الرجعي الذي يكاد يخنقها والذي يدغم الدولة بالدين والدين بالدولة ويهدد وحدة المجتمع وتماسكه، كان عندما استولى حزب البعث على السلطة في سورية سنة 1963. كان يمكن لحزب البعث الذي طالما ادعى أنه قومي وعلماني وديموقراطي واشتراكي، كان يمكن له ولشعاراته أن يضع حداً لهيمنة الدين على الدولة ويطبق المبدأ القومي والديموقراطي والاشتراكي ويفصل الدين عن الدولة، لكن البعث لم يفعل! بالعكس من ذلك فالبعث قد عمل بما هو عكس القومية والديموقراطية والاشتراكية والعلمانية عندما قال بالإسلام روحاً للعروبة فادخل بذلك الدين الإسلامي كعقيدة أراد منها أن تكون عقيدة قومية لجميع السوريين وأن يكون الدين مهيمناً على هذا الجسد الذي لا يتحرك من دون روحه- الإسلام.

ليس ذلك فقط، فقد ساهم البعث أيضاً في توسيع الشرخ وتعميق الانقسام بين السوريين الناطقين بالعربية والسوريين الأكراد عندما أخرج هؤلاء من الهوية القومية العربية التي أراد فرضها على السوريين، ودفع هؤلاء الأكراد دفعاً الى النزوع للانفصال، بل شجعهم على ذلك! فها هو الأستاذ ميشيل عفلق يقول سنة 1982 : “هل يضيرنا أن يكون هناك شعب كردي مؤلف من عشرة ملايين أو أكثر وأن يكون بمثابة الأخ والشقيق للأمة العربية وأن يكون هناك تعاون وتفاعل؟ نحن كعرب نساعد على تحريرهم، نساعد إخواننا الأكراد على متابعة تحرير أجزاء وطنهم وشعبهم وتوحيده...”. (أحاديث السادس من حزيران).

إن البعث بدل أن يعمل لتقوية وحدة السوريين وتحصين شعورهم بوحدة شخصيتهم ووحدة مصالحهم ومصيرهم بعد 57 سنة من حكمه سورية، فإنه بعروبته الدينية والعنصرية كان عامل انقسام وليس عامل توحيد. فالمسألة الكردية تضخمت كثيراً وصارت مناطق شرق الفرات مناطق نفوذ لأميركا بالتواجد العسكري الأميركي المباشر وغير المباشر. والتطرف الديني مزق المجتمع السوري وأطاح بما بقي البعث يردده طيلة 57 سنة من حكمه وهو: “الوحدة الوطنية” غير مدرك أن للوحدة الوطنية طريق واحد هو فصل الدين عن الدولة ومعرفة أن القومية لا تتأسس لا على الدين ولا على اللغة ولا على العرق بل على وحدة الحياة الاجتماعية الاقتصادية على أرض الوطن الواحد الجامع الحاضن لمختلف الأصول العرقية واللغوية والدينية بلا فوارق حقوقية مدنية وسياسية.

إن البعث هو الذي سخر موارد الدولة المفترض أن تكون موارد جميع السوريين، سخرها طيلة عقود طويلة لبناء آلاف المساجد والمدارس الدينية وأطلق العنان لنمو النعرات المذهبية ولتحكّم هذه النعرات ودعاتها في جميع مفاصل حياة السوريين حتى التشظي.

الفرصة الرابعة هي تلك التي تلوح اليوم بعد الثمن الفادح الذي دفعه السوريون من وحدتهم ووحدة وطنهم ومن دمائهم الغزيرة التي سُفِحت ولا تزال. هناك فرصة اليوم لفصل الدين عن الدولة والسوريون مهيأون لقبولها بعد مشاهدتهم الوجه القبيح للعصبيات الدينية وانفجارها الذي أطاح بكل شيء. رغم ذلك يصر البعثيون على تمكين الدين من الدولة ويخضِعون الدولة للدين ويجعلونها في خدمته، ضاربين بعرض الحائط حقوق المكونات الشعبية الأخرى، المدنية والسياسية، ومؤججين النزعات الانكماشية الانفصالية للأكراد عن طريق التشدد في العروبة العنصرية التي أخرجتهم وميزتهم واستفزتهم حتى توهموا وتوهم قادتهم، العنصريون هم أيضاً، أن أنفصالهم هو وسيلتهم الوحيدة لاستعادة حقوقهم المتساوية في وطنهم سورية.

إن البعث في سياسته القديمة – الجديدة يعمل على خلق مجتمعات مذهبية ويؤسس لحروب داخلية جديدة. فبدل أن يعمل على التعلم من دروس وكوارث سياساته السابقة، وبدل أن يعمل على فصل الدين عن الدولة ويتمسك بمبدأ “الأمة السورية مجتمع واحد” الذي هو المبدأ الوحيد الذي يحفظ وحدة حياة السوريين المتعددي الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق والأصول، نراه ينكر وجود الأمة السورية ويتمسك بالعروبة العنصرية ويرفض مبدأ فصل الدين عن الدولة.

ثالثا: وزارة الاوقاف غير دستورية ويجب الغاءها.

إن وزارة الأوقاف التي ظاهرها وأسمها يوحي بغرض تنظيم الأوقاف، أي أملاك المؤسسات الدينية كلها لمختلف المذاهب والطوائف السورية تحت إشراف الدولة وضبطها، قد تحولت مع المرسوم 16 ومواده إلى وزارة تتعدى صلاحياتها شؤون الأوقاف إلى تمكين طائفة واحدة بعينها لمد مفاهيمها هي وعقيدتها هي للتحكم بحياة السوريين جميعهم اجتماعياً واقتصادياً وتربوياً والتدخل في شؤون عباداتهم وطقوسهم وعلاقتهم بربهم التي يجب أن تكون علاقة شخصية فردية خاصة حسب مفاهيم الدين الصحيح نفسه.

إن ضبط الدولة لشؤون الأوقاف، أي لأملاك المؤسسات الدينية وعائداتها، يجب أن يكون من صلاحية وزارة المالية ولا يجب أن يعطى لوزارة مستقلة. وأن ضبط شؤون التوجيه الديني من أجل محاربة التطرف والتعصب يجب أن يكون من صلاحية وزارة التربية والتعليم ولا يجب أن يعطى لوزارة مستقلة، لأن الوزارة هي مبدئياً لرعاية مصلحة عامة تشمل المجتمع كله وليست لرعاية وتنظيم شؤون خاصة بدين أو طائفة أو مذهب بعينه. المواطنون يجب أن يشعروا أن الوزارة، أي وزارة، هي لهم كلهم ولرعاية مصلحة تشملهم كلهم بالتساوي، مثل وزارة الصحة والعدل والتربية والداخلية والدفاع …الخ. أما المصالح الخاصة بطائفة أو فئة من أي نوع فلا يجب أن تتولاها وزارات مستقلة بل دوائر فرعية تابعة لوزارات وطنية ترعى مصالح وطنية عامة.

إن موارد الاوقاف يجب أن تعود لصالح الدولة والمجتمع، وليس موارد الدولة والمجتمع لصالح الأوقاف. ولكي تكون الأوقاف ومواردها لمصلحة الدولة والمجتمع، وليس العكس، وجب إلغاء وزارة الأوقاف ووقف الصرف عليها وعلى موظفيها من المال العام، ويجب أناطة شؤون ضبط وتنظيم أملاكها وعائداتها بأحد دوائر وزارة المالية.

يجب فصل الدين عن الدولة وتحرير القضاء من هيمنة الدين وتعدد المفاهيم الدينية وتضاربها، لتوحيده وجعله واحداً لجميع أفراد المجتمع. يجب إزالة كافة الحواجز الحقوقية المدنية والسياسية بين مختلف الطوائف والمذاهب من أجل جعل السوريين مجتمعاً واحداً بالفعل وليس فقط بالقول.

دون ذلك نكون نؤسس لحرب أهلية جديدة ونفتح المجال والابواب مشرعة لتسلل وتدخل الإرادات الاجنبية وتمكينها من التحكم بمفاصل حياة السوريين.

رابعا: ما العمل؟

قد نتفهّم حرص الرئيس السوري بشار الأسد على محاربة الإرهاب التكفيري عن طريق خلق “إسلام معتدل” أو تشجيع وتقوية “إسلام معتدل” موجود، خاصة أن سيادته أعلن خلال أجتماع مع اللجنة المركزية لحزب البعث تاريخ 6-10-2018، وقال: “إننا مقبلون على معركة إعادة تأهيل بعض الشرائح التي كانت حاضنة للفوضى والإرهاب لكي لا تكون هذه الشرائح ثغرة يتم استهداف سورية في المستقبل من خلالها”.

إننا إزاء هذا الامر لا يسعنا إلا القول والتشديد على أن السبيل الوحيد لإعادة التأهيل والطريقة الوحيدة لسد الثغرات التي تتسلل منها الإرادات الأجنبية هي في فصل الدين عن الدولة على أساس أن السوريين هم مجتمع واحد. إن فصل الدين عن الدولة لا يعني لا فصل الدولة عن المجتمع، ولا فصل الدين عن المجتمع. لا يعني تجريد المجتمع من القيم الدينية أو القيم الأخلاقية، دينية كانت أو غير دينية. فنحن نعرف أن السوريين عرفوا الخير وعملوا به وعرفوا الشر وحاربوه، وكان ذلك قبل الدين ومع الدين على السواء. إن العقل السوري كان قد توصل إلى معرفة الخير والشر قبل هبوط الأديان السماوية بآلاف السنين. وما الأساطي والملاحم القديمة من “إينوما إيليش” الى “جلقامش” إلا تمثيلاً للصراع بين الخير والشر. وقد ترجم أجدادنا ذلك عملياً في قوانين وضعية منذ ما قبل شريعة حمورابي ومع الشرع الكنعاني الذي أخذ عنه الموسويون شرعهم، ولا خوف على السوريين من أن يضيعوا الخير ويقعوا في الشر بعد فصل الدين عن الدولة. فالمجتمع يجب أن يشعر أن الدولة هي كلها له كله بالتساوي، وهذا لا يتم بجعل مذهب بعينه مهيمناً على الدولة وفارضاً قوانينه ونظرته الخاصة عليها. إنه لا يتم إلا بفصل الدين عن الدولة وجعل الدولة مدنية وطنية في مجتمع متعدد الأديان والمذاهب. إن للدين أن يمارس واجباته بتهذيب النفوس وهدايتها الى الله والحض على الخير والنهي عن المنكر، وللدولة أن ترعى مصالح الناس الواحدة وتنظم حقوقهم الواحدة وواجباتهم الواحدة، والدفاع عنهم وعن سيادتهم، وهذا لا يتم إلا بفصل الدين عن الدولة. أما دمج الدين بالدولة وجعل الدولة دينية، في مجتمع متعدد الأديان، فهو الذي يهدد وحدة المجتمع ويهدد مصالحه ومصيره.

إن فصل الدين عن الدولة لا يعني بأي حال من الأحوال فصلاً للدولة عن المجتمع، إن الدول المدنية حيث هناك فصل للدين عن الدولة هي دول ناجحة جداً في صيانة المصالح الواحدة والحقوق الواحدة لمواطنيها، وناجحة جداً في صيانة وحدة المجتمع والدفاع عنه، ولا يتعارض ذلك أبداً مع حقوق الإعتقاد وحرية الفكر والإيمان والعقيدة.

إن عقلية الأكثريات والأقليات الدينية، أو العرقية، هي عقليات رجعية تعمل ضد مبدأ “الأمة مجتمع واحد”. إن السوريين هم مجتمع واحد، ويجب أن يكونوا ويبقوا مجتمعاً واحداً فوق اعتبارات الاقليات والأكثريات الطائفية والعنصرية.