1

“واو الوصل”

في ندوتها الحوارية من ضمن الندوة الثقافية لمجموعة “إعادة البناء”، دخلت السيدة ريجينا صنيفر إلى العمق في بعض العوامل المكوّنة للشخصية المذهبية ومنها الجهل والخوف والهويات الجزئية التي تعمل الإرساليات الدينية والنظام الطائفي الذي تغذيه على خلق تاريخ مزوّر لها عبر مؤسساتها التربوية. وقالت إن هذه الظروف هي ما استغلته الأحزاب الطائفية قبل الحرب لتجييش الاتباع تمهيدا للاقتتال الداخلي. وأن هذا النظام كان موجودا لكي تكون ريجينا، الطفلة المراهقة مع انطلاقة الحرب، “حيث كانت”. أي في صفوف أحد المليشيات اليمينية. ومما قالته إنه لا بد من تغيير “الظروف”، أي تغيير هذه التركيبة، لكي نستطيع الوصول إلى الشعب وتغيير مفاهيمه.

لا شك أن الجهل والخوف سابق للحرب الأهلية بعقود. فمن قصيدة للوالد، الأمين عجاج المهتار، كتبها سنة 1943، نقرأ:

“وبعدا الطوايف بالأسامي منمرّة

ومعرّبي بحارات

وقلوب سودا بالضغينة مخمّرة

ونبضاتها نعرات

وستك يا “نجوى” مخمّنه حدود الدني

عحدود ضيعتنا

وناوي تخوض الانتخابات السنة

عن بنت عيلتنا.”

كانت الشرارة التي دفعت ريجينا لمراجعة مسيرتها ومواجهة ذاتها، لقاء مع سجين فلسطيني في أحد معتقلات القوات اللبنانية يغني لأمه ويناجيها بـ “يمه”. تلك اللحظة، تقول ريجينا، كانت لحظة فاصلة شعرت فيها بإنسانية السجين الفلسطيني لأول مرة، ولم تعد تراه العدو الذي يهدد وطنها. تلك اللحظة كانت نقطة تحوّل في حياتها وصفته تفصيلا في كتبها الأربعة.

الجدير ذكره، أن زيارتها تلك كانت لتفقد مساجين يتبعون لقائد القوات اللبنانية المهزوم آنذاك، إيلي حبيقة.

نعود الآن إلى تغيير الظروف، وهل هي شرط ضروري لتغيير النفوس، أم العكس، أم أن الأمرين يحدثان بالتزامن؟ فقصيدة الأمين عجاج والتي ننشرها بكاملها في مكان آخر من هذا العدد، تعطي صورة حيّة عن المجتمع الريفي آنذاك بغض النظر عن الانتماء المذهبي. و”النعرات” و”البغض” الذين يتكلم عنهما ليسا بالضرورة من مذهب ضد آخر. أما زالت الناس في بعض القرى تقول عن العائلة المنافسة من نفس الطائفة، “مش من مجاويزنا”؟ ألا يقول في نفس القصيدة،

“وبعدا العيال بتفتخر بدمها

ما بتنخلط بالغير

والبنت يا بتاخد خليفة عمها

يا بتنزوي بالدير.”

ولكن، إذا كان هذا هو الواقع، فكيف انتمى عجاج المهتار، ابن تلك البيئة، وهو الأمي آنذاك، إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه “أنطون” سعاده؟ وكيف انتمى عساف كرم، وأخته سيريا وأخته سلمى، ولاحقا والدهم، بو عساف إسبر كرم، إلى نفس الحزب الذي يقول بفصل الدين عن الدولة، بالرغم من البيئة المذهبية المنغلقة التي نشأوا فيها. وإذا كنا نأخذ هذا المثال من حياتنا الخاصة، فالأمر ليس محصورا بنا. ما الذي دفع بقادة مثل أسد الأشقر وبشير عبيد وفؤاد الشمالي ونبيل العلم وحبيب كيروز وحبيب الشرتوني للانتماء؟ ما الذي دفع ريجينا صنيفر إلى البحث عن روح الحضارة التي أطلقها سعاده. وما يقال عن هؤلاء القادة من الطائفة المارونية يقال عن عشرات الآلاف من الأعضاء والقادة والشهداء من مختلف المذاهب والمناطق في جميع الأراضي السورية، وقبل تغيير الظروف التي لا بد من تغييرها. فما هو السر؟ هل هو سحر سعاده المتوهج من شخصيته الآسرة؟ لا. لا يكفي. فهذا السحر لم ينفع مع جلاديه الذين قتلوه مع أنهم عرفوه ولمسوا سحر شخصيته. إنه الجزء الثاني من المعادلة، الجزء الأهم، ذلك الذي راهن عليه سعاده نفسه. فما هو هذا الجزء؟

“المغناطيس لا يجذب الخشب.” بهذه العبارة أجابني الوالد حين سألته عن سبب انتمائه للحزب. “نعم، كان لسعاده وعقله وشخصيته القائدة الأثر الكبير، قال الوالد. ولكننا انتمينا إلى الحزب قبل أن نتعرف إليه. كان لدينا، نحن جيل الشباب الذي يعيش في ظلمة خانقة توق لشيء أفضل، لحياة أفضل، لما يردّ كرامتنا المُداسة من جيل لجيل تحت أقدام “البيك” و”المير” ومن هم وراءهم. كنا شبابا طموحين نحب بلادنا عن عاطفة، ونكره أخصامنا عن جهل. كنا المعدن الذي اجتذبه مغناطيس سعاده. ولكن لولا هذا المعدن لما كان هناك حزب.”

هذا المعدن الموجود في تلك النفوس الشابة التواقة للحق والخير والجمال، كان بحاجة لصلة وصل، كان بحاجة لسعاده، سعاده هو واو الوصل.