1

هل ثأر يوسف الخال من انطون سعاده؟-جان دايه

جان داية

في العام 1976، التقيت بالأب جاك اماتاييس السالسي في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، فاعلمني انه بصدد دراسة عن يوسف الخال وحركة الشعر الحديث التي يراسها. وسألني عن صحة المعلومتين اللتين تفيد أولاهما بان الشعراء القوميين الاجتماعيين يشكلون المحور الرئيسي للحركة، فيما تفيد الثانية بأن مفهوم الحداثة الذي تؤمن به الحركة ويطبقه رئيسها وأعضاؤها في قصائدهم، هو نفسه الذي أكد عليه أنطون سعاده في كتابه “الصراع الفكري في الأدب السوري”. أجبته عن المعلومة الأولى بالإيجاب، منوها بأدونيس ومحمد الماغوط ونذير العظمة وفؤاد رفقة وخالدة سعيد واسعد رزوق ويوسف الخال الذي ترك الحزب ولكنه لم يترك المبادئ الإصلاحية في العقيدة أسوة بمعظم نظرائه ومنهم غسان تويني. وعن المعلومة الثانية أكدت على أن الشعراء القوميين في الحركة استوحوا (الصراع الفكري) في قصائدهم ودواوينهم.

يوسف الخال

 

وفي شباط 2004 صدر الكتاب تحت عنوان يوسف الخال ومجلته شعر. وقد امتد على طول 300 صفحة من القطع الكبير، وامتلأت صفحاته بالمراجع والمقابلات الحية والمخطوطات. ويمكنه تلخيص مضمونه بهذه العبارة التي أوردها المؤلف في الصفحة 31 “رغم انفصاله عن الحزب نظاميا، ظلَّ يوسف الخال متأثرا بأجوائه الثقافية إلى مدى بعيد. فرؤيته، والكثير من مواقفه وأفكاره التي سيبشر بها في مجلة شعر وكتاباته اللاحقة، تذكرنا بنظرة أنطون سعاده إلى الحياة والكون والفن، كما عبر عنها في كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري“. الآن، بعد 42 سنة من لقائي بالمستشرق الأب جاك، و14 سنة من صدور كتابه، أُضيف على السؤالين المتمحورين على هوية “خميس شعر” الأدبية العقدية، سؤالاً ثالثاً يتمحور على ثأر رئيسها يوسف الخال من زعيمه أنطون سعاده

انطون سعاده

.

ولنبدأ الإجابة على السؤال الثالث. إثر عودته من مغتربه القسري في 2 آذار 1947، وُوجه سعاده بثلاث مشكلات كبيرة، واحدة خارجية مصدرها السلطة اللبنانية التي استقبلته بمذكرة توقيف. وثانية داخلية عقدية بقيادة رئيس الحزب نعمة تابت، تستهدف لبننة العقيدة والحزب. وثالثة داخلية ثقافية، بقيادة عميد الثقافة فايز صايغ، تحاول اعتماد الفرد أو الشخص محورا وهدفا للقيم العليا كالحرية، التي يقول بها الفيلسوف الروسي نيقولاي برديايف (1874-1948)،بدلا من محورية المجتمع التي يقول بها سعاده. والمشكلات الثلاث متداخلة، بحيث إن السلطة اللبنانية كانت تدعم بقوة نعمة تابت، الذي يدعم بدوره فايز صايغ. ولنكمل المقال في اطار المشكلة الثالثة التي هي موضوع هذا المقال، حيث يُعتبر يوسف الخال أحد أبطالها. حين أصدرت السلطة اللبنانية مذكرة توقيف سعاده خدمة لحلفائها في قيادة الحزب القومي، لم تكن تعلم أنها قدّمت هدية كبيرة لزعيم الحزب. فالمذكرة التي رفض سعاده تنفيذها، أدّت إلى اصطفاف أعضاء الحزب وكوادره وبعض مسؤوليه إلى جانب زعيمهم. وعندما ألغيت بعد اشهر، حاور سعاده تابت ومجموعته، وصايغ ومجموعته، لإقناعهم بالعودة عن انحرافهم العقدي والثقافي. وعندما رفضوا، طردهم، من غير أن يقف احد من الحزب معهم.

بعد اقل من عشر سنين، أسس يوسف الخال جمعية أدبية بهدف إبداع الشعر الحديث. وحدد مبادئها، عبر محاضرة ألقاها في (الندوة اللبنانية) بتاريخ 31 كانون الثاني 1957, على النحو التالي: “المبدأ الأول: مفهوم جديد للشعر مستمد من الآداب الغربية. ويحل محل المفهوم العربي التقليدي الذي يقول إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى. ففي الآداب العالمية، الشعر قد يكون موزوناً وقد يكون مقفّىً، ولكنه فوق هذا كله عمل فني إنساني خلاّق يعبّر عن خبرة كيانية شخصية فريدة صادقة تعكس قضايا الإنسان الأزلية، فتتعدى حدود الزمان والمكان” وبالمقابل، يستعمل سعاده كلمة (التجديد) بدل (التحديث)، فيقول في كتابه الصراع الفكري في الادب السوري فصل من الظلمة إلى النور: “يصعب علي كثيرا أن أتصور أن مجرد درس الأدب الإنترناسيوني الحديث يكفي لإيجاد نهضة أدبية فنية أصلية في سورية“. وفي فصل تجديد الأدب وتجديد الحياة يقول سعاده: “إن التجديد في الأدب هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور، في الحياة وفي النظرة إلى الحياة، هو نتيجة حصول ثورة روحية مادية اجتماعية سياسية تغير حياة شعب بأسره ،وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه“.

ويتساءل سعاده في الفصل الأخير طريق الأدب السوريلقد نشأت نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة في سورية، فهل يتنبه لهذه الحقيقة أدباء سورية، وخصوصا شعراؤها، ويلبون هاتف الدعوة، ويوجدون هذا الادب الغني بالقضايا الفكرية والشعورية التي كانت كامنة في باطن نفسيتنا حتى ظهرت في النظرة الجديدة الى الحياة؟” اذا قارنا بين نظرة الخال للشعر الحديث، ونظرة سعاده للشعر الجديد، نجد فوارق عديدة، أكتفي في هذه العجالة بالإشارة إلى الأساسية منها: إن الخال يدعو الشعراء اللبنانيين إلى الآداب الأجنبية وشعرائها الكبار أمثال ت.اس. إليوت وعزرا باوند، كي يستمدوا منها المفهوم الجديد للشعر الحديث. في حين يدعوهم سعاده إلى اعتناق النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن، التي ابدعها هو نفسه. أعود إلى السؤال-العنوان لتأكيد أو نفي ثأر الخال من سعاده. مما تقدم، نستخلص الحقائق الثلاث التالية:

نذير العظمة

1- رغم أن سعاده هو الذي طرد الخال من الحزب بسبب انحرافه العقدي، لبى عدد من أبرز شعراء الحزب دعوة الخال أمثال أدونيس ونذير العظمة ومحمد الماغوط، بعد اقل من عشر سنين من اغتيال أركان السلطة اللبنانية التي دعمت تابت وصايغ، أنطون سعاده. وباستثناء نذير العظمة، فإن سائر الشعراء  والأدباء القوميين الاجتماعيين الذين انتموا إلى “خميس شعر”، تركوا الحزب ومبادئه الأساسية ونظرته الفلسفية الجديدة، بعد انتمائهم إلى الجمعية الأدبية ذات الخلفية العقدية التي أسسها يوسف الخال.

2- ابدى هؤلاء اهتماماً ملحوظاً بالشعراء الفرنسيين والإنكليز الكبار، فدرسوا شعرهم وسيرة حياتهم، وأُعجبوا بهم وآمنوا بنظرتهم إلى الحداثة. وهنا، يجب استثناء محمد الماغوط الذي كان يجهل الفرنسية والإنكليزية. وهذا واضح من كتاباتهم المنشورة في مجلة “شعر”. يقابل ذلك غياب كامل في نتاجهم، لسعاده ومفهومه التحديثي للشعر. طبعا، لو كان اطلاعهم على الشعر الفرنسي والإنكليزي بهدف تعميق ثقافتهم الأدبية، لباركه سعاده فيما لو تم قبل اغتياله. ذلك انه كان قيدومهم في الاطلاع على نتاج المبدعين الأجانب

محمد الماغوط

.

3- عتموا على أبرز نتاجهم الشعري الذي أبدعوه خلال اعتناقهم عقيدة سعاده وانضوائهم في حزبه وإيمانهم بمفهومه التجديدي للشعر. واذا أخذنا أبرزهم، أي أدونيس، نجد، على سبيل المثال، أن معظم ديوان “قالت الأرض” الذي كتب مقدمته سعيد تقي الدين، قد غاب عن أعماله الشعرية الكاملة، ناهيك بسائر نتاجه الشعري خلال حياته الحزبية التي استمرت 15 سنة.