1

هل تنجز الثقافة ما عجزت عن فعله السياسة؟

شام قطريب

هل تمكنت الأحزاب القومية والوطنية واليسارية الشهيرة من إحداث التغيير الذي وعدت به في برامجها السياسية أو مبادئها الإصلاحية؟ على العكس، خسرنا معظم المعارك التي خضناها مع العدو، وتردّى حال المجتمع من النواحي المعرفية والأخلاقية، كما انتشرت الطائفية وتعمقت الفروقات الطبقية الحادة إضافة إلى كثرة الأمراض الاجتماعية والاقتصادية من فساد ونهب للثروات وتبديد للقوى. ترى، ما الذي فعله السياسيون خلال عملهم طيلة قرابة مئة عام من اليوم؟ وهل كان بالإمكان تلافي هذا الفشل الكبير لو تم الاعتماد على المثقفين من مفكرين وشعراء ورسامين وموسيقيين وغيرهم في عملية التغيير ورسم ملامح المسار والمستقبل؟ ثم لماذا هاجر المثقفون من تلك الأحزاب بعد تأسيسها بسنوات قليلة؟ هل لأنهم تعرضوا إلى غبن وتهميش واضطهاد؟

في هذه المرحلة التي تشهد مخاطر جسيمة من النواحي المعرفية والمجتمعية والجغرافية، لابد من العودة إلى جذور المشكلة ومحاولة الكشف عن العلّة والمرض التي يقول المختصون إنه مرض ثقافي تربوي أخلاقي يتعلق ببنية الشخصية وبنية الفكر وطبيعة النظرة إلى الحياة والكون والفن. من الطبيعي أن ينتج السياسي غير المثقف، سياسة جاهلة ومنفصلة عن مصالح الأمة العليا. ومن الوارد أيضا أن ينتشر الفساد السياسي في جميع القوى التي لا بوصلة ثقافية استراتيجية لها. من هنا كان بحثنا مع مجموعة من الكتاب حول سؤال جوهري طرحته “الفينيق” يقول: هل تنجز الثقافة ما عجزت عنه السياسة؟ وهو ملف نأمل أن نتابعه بشكل دائم عبر مشاركة المثقفين والسياسيين على حد سواء.. فلنتابع.

الدكتور نضال الصالح: الأحزاب والقوى السياسية العربية متواضعة الأداء

“أسارع إلى الإجابة عن السؤال بالقول: أجل، وبلى، ونعم، تنج

ز الثقافة ما عجزت السياسة عن القيام به. وأكثر من هذه الثلاث وسواها مما اصطلح النحويون عليه بحروف الجواب ثلاثة أفعال: تنجز، وتنجز، وتنجز. وهي تفعل ذلك في حال واحدة فحسب هي أن يبلغ السياسي درجة من اليقين ببلوغه آخر النفق، وأن يتطهر من آثام التوهم بأنّه وحده يمتلك الكفاءة في بناء الأفراد والمجتمعات، بينما هذا الأخير، أي البناء، فعل ثقافيّ بامتياز. ولو فعل السياسي العربي ذلك لكان حال الواقع العربي غير ما هو عليه الآن، بل منذ عقود، غائصاً حتى أعلى رأسه في أوحال الخراب الذي يفتك به من جهاته جميعاً. ولو أيقن بعجزه عن مواجهة تحولات الواقع، فمكّن للثقافة من أن تمارس دورها في عملية البناء، لكانت رطانة هذا الواقع أقلّ بشاعة من هذا الوهن الذي يمسك الواقع نفسه بمخالب باهظة التوحش.

منذ عقود، ولنقل منذ ما يزيد على قرن، وإبان إخفاق الثورة العربية الكبرى فاتفاقات سايكس بيكو فوعد بلفور فالنكبة فالانقلابات العسكرية فالنكسة..، أثبتت السياسة، والسياسيون بطبيعة الحال باستثناءات قليلة، تواضع وعيها بالواقع من أجل تفسيره أولاً ومن ثم تغييره.

عشرات الأحزاب والقوى السياسية العربية، وفيما يعني القضايا الوطنية والقومية الكبرى، جهر أداؤها بتواضعه على غير مستوى، وبسبب ذلك كانت هذه الفجائع الغاشمة في تاريخ العرب الحديث، والتي انتهت بالواقع إلى ما يشبه الدمار ف

ي ألف شأن وشأن، ومن اللافت للنظر أنّ أياً من تلك الأحزاب والقوى لم يفكّر يوماً بنقد نفسه، أو بمراجعة لأدائه، أو بدعوة المثقفين من أعضائه إلى اجتماع يناقش فيه هذا الأداء، يقيناً منه بأنّ السياسي واقعي والثقافة رؤية طوباوية للحياة والوجود.

في تقديري أنّ الثقافة تستطيع أن تنهض بأداء مهمات جليلة لو أتيح لها ذلك، ولو تمّ إشراك المثقفين في صناعة القرار في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وهي قادرة، لو تمّ التمكين لها، على صناعة المعجزات. أجل المعجزات، لأنّها تستهدف صياغة الوعي، وهذا الوعي وحده هو ما يستولد في الواقع معجزة بعد أخرى.”

*روائي وناقد، أستاذ جامعي في كلية الآداب جامعة دمشق، رئيس اتحاد الكتاب العرب سابقاً

محمد عُضيمة: لن نتقدم إلا بفصل الدين عن الدولة

“لا ثقافة ولا سياسة ولا اقتصاد ولا تعافٍ في ظل استبداد طائفي ومذهبي يأكل الأخضر واليابس في المنطقة المدعوة بلاد الشام: سوريا، العراق، لبنان، الأردن، فلسطين. لن تشفى هذه البلدان من التخلف والجهل ولن تتقدم إلا بفصل واضح وصريح بين الدين والدولة.

بلدان ترزح تحت وصاية وزارات الأوقاف والمساجد والحسينيات، تحت قانون طوا

رئ إسلامي قديم ومستبد: لا ثقافة ولا مثقفين خارجه، ولا سياسة أو سياسيين. الأحزاب السياسية في هذه البلدان لا علاقة لها بالسياسة، هي مجرد أحزاب دينية/ مذهبية، تؤمن بالمذهب والطائفة أولاً وقبل أي شيء اسمه وطن. أما الشعارات فهي للتجارة بالحجارة. والعشر سنوات من تدمير السوريين لبلدهم أثبتت ذلك. لأن التربية الدينية المذهبية في البيت والجامع وفي كلية الشريعة وفي معاهد تحفيظٍ كانت ومازالت كالتسونامي على مرأى ومسمع جميع الحكومات، وجميع الرفاق، لا بل وبمباركة أعلى سلطة ورفيق في البلد.

عتاة المثقفين اليساريين، من شعراء 

ورسامين ومسرحيين وممثلين ومطربين وروائيين ومفكرين وسياسيين، تحولوا إلى طائفيين ومذهبيين وعائليين وعشائريين وقبليين، في الساعات الأولى مما يسمى ثورة. لم يهمهم الوطن وغادروه كما لو كانوا في خان للمسافرين. ومن بقي في الديار طفش من بيته والتجأ إلى طائفته، أو قبيلته، أو عشيرته أو عائلته. فمن هو “المثقف” الذي تريده أن يحل محل السياسي والاثنان من طينة واحدة.

نعم الثقافة هي الحل، لكن ماذا بإمكانك أن تفعل، والقوانين العنصرية، الطائفية، المذهبية، التي أوصلت البلد إلى هذا الدمار هي هي لم تتغير. وليس هناك من يريد أن يرى أو يسمع أو يخاف أن يرى أو يسمع فيطير.”

*شاعر وناقد، أستاذ الأدب العربي في جامعة طوكيو في اليابان

 

عبد الله منيني: يجب إطلاق الثقافة من براثن السياسة!

“التابع لا يدرك المتبوع فيما هو تابع له فيه اذ لو أدركه لم يكن تابعاً. فافهم!” محي الدين ابن عربي.

“دأبت الانظمة العربية وبشكل ممنهج على ربط مفهوم الثقافة بالسياسة، فغدا مرتبطاً ارتباطاً جذرياً بالثقافة فأنتج ما هو معلوم بمصطلح الثقافة السياسية في العالم العربي، والتي تقوم على معتقدات وقيم ومشاعر جامعة من جهة ومواقف وآراء تناقض المبدأ الثقافي من جهة أخرى.

وقد أدت هذه الحالة الموصوفة إلى تفشي ظواهر سياسية سلبية في مقدمتها التجزئة والفتن والخضوع والحروب الاهل

ية وفقدان الهوية والصراع الطبقي والاثني..

الخ، ولكننا لا نجرؤ كفاية أولا نحسن مواجهة تداعيات ذلك الدمج لصالح السياسة بالوسائل المناسبة. أي الفصل ما بين الثقافة والسياسة، فقد تنجح الثقافة في تحقيق ما عجزت عنه السياسة.

وإذا لم نستطع تحقيق ذلك الفصل المطلوب، فلا بد من المبادرة الى إحداث قطيعة معرفية مع ثقافتنا السياسية الراهنة والتأسيس لثقافة مختلفة تقودنا الى حال ناهضة مازلنا نصبو اليها منذ تعرضنا لغلبة الحضارة الاوروبية الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على مصر وحتى اللحظة الراهنة.

إن المجتمعات هي ثقافاتها، وعادة ما تُعرّف بها، والثقافة هي ميزة كل أمة في نظرتها إلى ذاتها وإلى الآخر. والثقافة، بمعناها العربي، هي قيم عقلية فردية المعنى ومجتمعية الدلالة، وغربياً هي مجتمعية المعنى والدلالة، بعد أن نأى الغرب بنفسه عن الدين ببعده الاجتماعي. وقد أضحت عالمية بفعل المعنى الغربي وهيمنته، وإن كانت الثقافة قد أخذت طريقها إلى كل أدبيات العالم العقلية. وهكذا فقد أصبحت الثقافة مصدراً من مصادر الهوية الجمعية. والثقافة، بما تحمله من مضامين معنوية وروحية، هي المرجع وهي الميزان لأنها تضم عنصراً نقياً ودافعاً نحو السمو. وهي مخزون كل مجتمع من أفضل ما تحققت المعرفة به والتفكير فيه. وهي كما عرّفها بعض علماء الاجتماع “كلٌ مركب من المادي والروحي لشعب من الشعوب”. وهي أيضاً مجموع القيم الكلية والعادات والتقاليد والسلوكيات الناظمة لعلاقات الأفراد والجماعات، وفيها الفكري المفاهيمي والسياسي والاجتماعي والفني.

فالمجتمعات لا تتعرض للغزو والاحتلال ومحاولات الطمس من الأعداء، إلا إذا ضعفت عناصر ثقافتها وتراخت مروءتها الجامعة، فتدخل من ثنايا خلافاتها ووهنها عناصر ثقافات أخرى وقوى غريبة تحاول تشويه صورتها ومكانتها في التاريخ لتفقدها قوتها وهيبتها وهويتها ومقومات وجودها الحاضر لتزيل مستقبلها وتستعبدها، لأنها أضحت بلا أسس لوجود حقيقي.

إن الشرط الوحيد لرد الغزوات الراهنة، أكانت عسكرية أو سياسية أو ثقافية، هو فقط من خلال إطلاق الثقافة وحركتها النابضة والخافقة في قلب كل عاقل وفي عقل كل من يملك حس إنساني. وعزلها عن براثن السياسة لأنها تدمرها.

الثقافة يجب أن تصبح مشروع المستقبل في كل عناصر نهضتها. فلا تحرير بلا ثقافة، ولا تحرر أو حرية بلا مضامين الثقافة، كما لا تنمية في ظل غزو خارجي يضمر كل الضغينة والسوء للأمة ويصادر الثروات، ولا حتى مواطنية في أوطان مستباحة يسلبنا الجيش الغازي المحتل كل عناصر التعبير عن الذات والهوية. هل أوطان بلا مواطنين أحرار يختارون طريق حياتهم بما ينسجم مع طموحاتهم في السيادة والاستقلال والتقدم؟

نعم علينا ان ندرك ان ما عجزت عنه السياسة تستطيع ان تدركه الثقافة، وهي التي تقرّب المسافات وتنسف الحواجز، لا طائفية فيها ولا كيانية ولا قبائلية أو عشائرية أو عائلية او مذهبية. الثقافة قد تنجح بما عجزت عنه السياسة ويبقى السؤال هل ستُمنح الثقافة حريتها لتحررنا مما نحن فيه؟

*سياسي، وكاتب

نبيل السمان: السياسيون المحدودون مسؤولون عن هجرة المثقفين من الأحزاب!

“منذ أن طرح سعاده سؤاله الشهير: ‘ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟’ كان الرهان الثقافي حاضراً وكان التركيز عليه كبيراً عبر إطلاق التفكير والبحث العلمي لأن “العقل هو الشرع الأعلى” عند الإنسان. من غير الممكن القيام بعمل سياسي فعال بلا بنية ثقافية قوية، بل إن العمل السياسي سيكون هشاً إذا لم يكن مستنداً إلى البناء الثقافي. في هذا الإطار يمكن أن نشرح مفهوم الجيل الجديد والتركيز على بناء الإنسان قبل بناء الحجر.

لقد فشلت الأحزاب وتردّى وضعها، بسبب هجرة المثقفين واعتبار الثقافة بطرًا أو فذلكة فائض

ة عن العمل الحزبي. وتلك كانت خطيئة كبيرة في تاريخ تلك القوى التي كان يعول عليها في إحداث تغيير كبير في المجتمع. لنستعرض جميع الأحزاب القومية واليسارية وغيرها على المستوى العربي ككل، فالجميع شهد ومازال يشهد ظاهرة هجرة المثقفين من كتاب وفنانين وروائيين وموسيقيين ومفكرين، وذلك مردّه بالطبع إلى طغيان السياسي على الثقافي ومحاولة تهميش الثقافي والسيطرة عليه وحرفه عن مساره.

الثقافة تعني إحداث التغيير البنيوي في المجتمع، فهي تشتغل على تغيير العقول والذائقة والخيال، لكن السياسة تنشغل بالتحالفات والسطحيات والأمور الآنية التي يمكن أن تتبدل في أية لحظة تبدل لتبدل الظروف والأحداث. لكن الثوابت والأمور الراسخة هي الثقافة التي تعني المبدأ والبناء الفكري من داخل الشخصية وليس من خارجها عندما يتم التركيز على الشعارات الشكلية دون الاعتناء بالبنى الجوهرية.

*فنان تشكيلي، وسياسي