1

مصادر التاريخ السوري

هذه المساهمة تشكل إطاراً عاماً لآليات كتابة التاريخ السوري، وتحتوي مجموعة محاور يمكن لكل منها أن يصبح موضوعاً مستقلاً.

أبدأ أولاً باعتراف وملاحظتين: أعترف بأنني لست مؤرخاً محترفاً، وإنما أنا قومي اجتماعي مهتم بتاريخ سورية إنطلاقاً من الفكر القومي الاجتماعي. والملاحظة الأولى أننا نستعمل عبارة “الكتاب المقدس” الذي قررت الكنيسة أن يضم “العهد القديم” و”العهد الجديد”، في حين أننا نعتقد بأن الأناجيل يجب أن تبقى مستقلة عن التوراة.

أما الملاحظة الثانية، وهي الأهم، فتتعلق بأسماء المناطق في المراحل التاريخية القديمة. إذ لاحظنا أن الصفة الجغرافية كانت تطلق على الأمكنة: وادي الرافدين، الهلال الخصيب، ما بين النهرين، المشرق، بلاد الشام (الشمال)، الشرق الأدنى، المغرب… وغيرها. وبالنسبة إلى موضوعنا هذا، فهي سورية الطبيعية من المتوسط إلى الخليج، ومن سيناء إلى طوروس!

تهتم هذه الورقة بتاريخ الأمة السورية تحديداً. وفي السياق نفسه تتناول الأمم المجاورة (مصر الفرعونية وفارس الأخمينية والعربة الصحراوية)، أو تلك التي تركت مؤثرات في سورية (الإغريق والرومان والعرب… إلخ).

يقول سعاده: “الأمة التي لا شأن لها في التاريخ لا شأن لها بين الأمم”. ويضيف: “فليس لأمة لا تاريخ لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم الأخرى”. (الأعمال الكاملة، الجزء الأول، ص 399). وليس المقصود من دراسة التاريخ التباهي بالماضي الزاهر، بل إستيعاب العبر والتجارب وتوظيفها لبناء المستقبل. كما وأن الوقوف على مجريات التاريخ يتيح للجماعات أن تتعرف على هويتها، فينشأ عندها الوعي بأبعاد تلك الهوية. ومن نافل القول إن الأمة التي لا تصنع تاريخها لا تستطيع أن تكتب تاريخها. ومن يعجز عن كتابة تاريخه… سيكتبه له الآخرون!

لكن كيف نكتب التاريخ؟

نحن نرى أن الكتابة التاريخية تقوم على ثلاثة أعمدة: الحقيقة، والتحليل، والرأي. وسنأخذ مثالاً من تاريخنا المعاصر: المؤامرة للقضاء على سعاده وحزبه. فالحقيقة التي لا خلاف عليها تتمثل بافتعال الكتائب حادث الجميزة، ثم الحملة الحكومية المعدة سلفاً، وبعدها خيانة حسني الزعيم وتسليم سعاده للسلطات اللبنانية التي حاكمته صورياً واغتالته إعداماً. أما التحليل فيتضمن ربط الوقائع بأحداث أخرى مثل اتفاق مد أنابيب التابلاين، والعلاقة مع “إسرائيل”، وتدخل القاهرة والرياض. في حين أن الرأي يتشعب، فقد يعتبر بعضهم أن سعاده لم يدرك حجم المخاطر، وكان عليه أن يتجنب التورط. بينما قد يرى آخرون أنه سجل موقفاً للتاريخ…

من المستحيل إجمالاً التلاعب بالحقائق. لكن التحليل والرأي عرضة للتوظيف السياسي، بحيث يتوصل المؤرخ إلى نتائج تتوافق مع الخلفية التي ينطلق منها. ومن هنا أهمية وجود المصادر سواء لدعم “القناعة” المسبقة، أو لنقضها. والارتكاز الأساسي يكون على المصادر المتاحة بأنواعها المختلفة (وثائق، مذكرات، شهود عيان…). وبقدر ما يعتمد المؤرخ على مصادر موثوقة بقدر ما يقترب من “الحقيقة”. لكن في أحيان كثيرة يتم اللجوء إلى إختلاق المصادر عندما تناقض الحقيقة الرأي المراد ترويجه. وينقل “معجم الأدباء” عن أحد الرواة قوله بهذا الصدد: “أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها”.

ننتقل الآن إلى القرن الثامن عشر حيث أخذت تتبلور منهجية جديدة للكتابة التاريخية في أوروبا، في حين واظبت الكتابات باللغة العربية على الأنماط التقليدية ذاتها. وترافق تطور الأساليب الأوروبية مع تكثيف الاهتمام بـ”المشرق” بسبب عاملين رئيسيين: أولاً، تمهيد الأرضية للإستعمار في أرجاء “السلطنة العثمانية المريضة”. وثانياً، إكتشاف جغرافية المنطقة التي يعتقد المؤمنون بصدقية “الكتاب المقدس” أن الأحداث التوراتية وقعت فيها فعلاً. وفي معظم الأحيان، تشابك العاملان لصياغة السياسة الأوروبية تجاه السلطنة العثمانية… وهذا الموضوع خارج عن نطاق بحثنا هنا.

قرأتْ أوروبا التاريخ القديم لمنطقة الهلال الخصيب من خلال مرجعيتين أساسيتين: التراث الكلاسيكي اليوناني ـ الروماني، والمرويات التوراتية المندمجة في “الكتاب المقدس”. وقد وصلت إلينا مؤلفات أو أجزاء منها لعدد من المؤرخين اليونانيين أمثال هيرودوت وكزينوفون ومارسياس ودوريس، ومن الرومان ليفي وبوليبيوس وتاسيتوس وبليني. وغالبيتها تضمنت تفاصيل تاريخية عن بلادنا. لكن من الضروري الإشارة إلى وجود عدد من المؤرخين السوريين ممن كتبوا باللغة اليونانية، غير أن مؤلفاتهم ضاعت ولم يبق منها سوى مقاطع متفرقة إحتوتها كتب مؤرخين جاءوا بعدهم. ومن أبرزهم فيلون الجبيلي وسخونياتن الفينيقي وبيروسوس (برعوشة) البابلي وتاتيانوس السوري… وهؤلاء يستحقون دراسة منفصلة لأنهم إستندوا إلى مصادرهم المحلية المتمثلة بـ”أرشيفات” المعابد والقصور في سورية.

وبصورة عامة، يمكن القول إن الكتابات التاريخية اليونانية والرومانية قدّمت تفاصيل مفيدة عن أوضاع بلادنا بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي. لكنها تلوّنت بالأحكام المسبقة، كونها اعتمدت على معلومات غير موثوق بها. وكان المؤرخون الرومان الأكثر انحيازاً، خصوصاً في تسجيل الحروب بين روما وقرطاجة. ومع ذلك ظل المؤلفون الأوروبيون خلال القرون الوسطى وما بعدها يستندون إلى المرويات اليونانية ـ الرومانية الكلاسيكية كمصدر مركزي في التعامل مع مناطق شرقي المتوسط.

أما بالنسبة إلى المصادر المحلية، فنحن أمام معضلات متشعبة ومعقدة هي نتاج القطيعة المعرفية التي أحدثها الفتح العربي الإسلامي في سورية على وجه التحديد (سنتناول هذه المسألة في بحث مستقل). إن مفهوم “الجاهلية” كما ورد في النص القرآني والحديث النبوي أعاق عملية الاستفادة من تاريخ ما قبل الدعوة المحمدية. علماً بأن أولى الكتابات “التاريخية” ظهرت في أواخر القرن الهجري الأول، لكن لم يصلنا منها سوى مقاطع وجدت طريقها إلى كتب المؤرخين اللاحقين (عروة بن الزبير المتوفي سنة 94 هجرية / 713 ميلادية هو في طليعة من كتب في مغازي الرسول، والملفت للنظر أن كلمة المغازي أسقطت لصالح كلمة السيرة عند الكتاب المتأخرين)!

ونظراً إلى غياب المصادر القديمة لأسباب عديدة، لم يجد المؤرخون المسلمون أمامهم سوى “أهل الكتاب” (اليهود والنصارى) يأخذون عنهم جوانب من الأحداث التاريخية السابقة للدعوة المحمدية. ولذلك كثرت المرويات التوراتية، خصوصاً في ما يتعلق بقصص الأنبياء الواردة تفصيلياً في التوراة وموجزة في القرآن. وقد عُرفت هذه المرويات باسم “الإسرائيليات”. وكثيراً ما كان بعض المؤرخين يلجأ إلى تفسيرات غريبة بقدر ما هي طريفة عندما يعجز عن تفسير أمر ما. وهاكم هذا المثال من “طبقات إبن سعد” (الجزء الأول، صفحة 46): “هرب إبراهيم ولسانه يومئذ سرياني… فلما عبر الفرات من حران غيّر الله لسانه فقيل عبراني حيث عبر الفرات”!!

لكن ماذا عن كتابات السوريين قبل الفتح العربي الإسلامي، وعلى وجه الخصوص المؤلفات باللغة السريانية كونها اللغة القومية قبل انتشار اللغة العربية في سورية الطبيعية؟

هنا يواجه الباحث معضلتين: الأولى جاءت نتيجة اعتناق السوريين للديانة المسيحية، إذ أقدم بعض غلاة المؤمنين على حرق وإتلاف كل ما هو غير ديني، بما في ذلك التراث الغني من المخطوطات في الأدب والفكر والتاريخ والعلوم… إلخ. والثانية، أن ما نجا من مذبحة الحرق ظل حبيس الخزائن في الأديرة المغلقة، ليجد طريقه لاحقاً إلى المكتبات والجامعات الأوروبية إما تهريباً وإما شراء. ومع ذلك وُجد مؤرخون سريان كبار خلال العصور الإسلامية، لكن غالبية مؤلفاتهم التاريخية وُضعت بالسريانية. وأبرزهم في القرن الثالث عشر الميلادي ميخائيل السرياني الكبير وأبو الفرج إبن العبري. وقد بدأت في السنوات الأخيرة جهود لتعريب هذه الكتب النادرة.

بقيت الأمور على حالها من حيث مرجعية مصادر التاريخ لمنطقة الشرق الأدنى حتى العام 1801، عندما عثر جندي فرنسي في حملة نابليون المصرية على حجر منقوش بثلاث لغات هي الهيروغليفية والهيراطيقية (المصرية القديمة) واليونانية. وقد عُرف بـ”حجر رشيد” نسبة إلى المنطقة المصرية التي وُجد فيها. المهم أن عالماً فرنسياً تمكن سنة 1822 من فك رموز اللغة الهيروغليفية، فانفتح عالم رحب من التراث الفرعوني الذي أضاف مصدراً جديداً ناقض في أحيان كثيرة المرويات التوراتية، خصوصاً ما يتعلق بإقامة اليهود في مصر ثم الرحيل عنها بقيادة موسى. كما أظهرت الكتابات الهيروغليفية مدى الإنجازات في العلوم والأدب والدين، وبعضها كان يُنسب خطأ إلى اليونان.

أما سورية فكان عليها الانتظار ريثما تجود الآثار بما يشابه “حجر رشيد”. وهذا ما حدث بالفعل، لكن ليس في أي موقع سوري وإنما في أطلال مدينة بيرسبوليس الإيرانية التي كانت عاصمة الإمبراطورية الأخمينية في القرن الخامس قبل الميلاد. فعلى منحدر شاهق يصعب الوصول إليه (وهذا ما حماه من عبث العابثين)، إختار داريوس الكبير تخليد أعماله للأجيال القادمة. فأمر بنقش النص بثلاث لغات هي البابلية القديمة والفارسية القديمة والعيلامية، وكلها بالخط المسماري الذي كان وسيلة الكتابة في سورية والبلدان المجاورة. وبعد سنوات من الجهود في ألمانيا وإنكلترا وأيرلندا، تم الإعلان سنة 1857 عن فك رموز الخط المسماري.

ولم يتأخر الباحثون الأوروبيون في الانكباب على مجموعات الألواح الطينية المتراكمة في خزائن المتاحف والجامعات، يفكون رموزها ويترجمونها… فانكشف لهم تراث ثقافي يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، أي أقدم تراث مكتوب في تاريخ البشرية. غير أنهم ما كانوا يتخيلون المفاجأة التي أعلنها الإنكليزي جورج سميث سنة 1872 بكشفه عن لوح طيني يحتوي أسطورة الطوفان الشبيهة بالنص التوراتي… سوى أن نسخة الطوفان البابلي أقدم من قصة طوفان نوح بألف سنة على الأقل. وكرّت سبحة الترجمات حاملة معها كماً هائلاً من المعلومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأدبية والعلمية، بحيث أصبحت المرويات التوراتية مجرد تفصيل صغير أمام المصادر المتشعبة التي تحملها الألواح الطينية المسمارية. وما عاد باستطاعة أي مؤرخ المباشرة بكتابة تاريخ سورية إلا إذا رجع إلى المصدر الأساسي الذي ما يزال قسم كبير منه ينتظر معاول المنقبين.

وفي الختام أضع أمامكم هذه الحقيقة: في خزائن المتحف البريطاني لوحده حوالي مائة ألف لوح طيني مسماري لم تُصنف بعد، وبالتالي لم تُدرس بعد! وإذا أضفنا إلى ذلك الرقم ما هو موجود في متاحف فرنسا وألمانيا وروسيا وأميركا وتركيا وغيرها، ثم حسبنا المخفي في المجموعات الخاصة… فسيفوق العدد المليون لوح. هل تتصورون قيمة الثروة المعرفية التي تنتظر كي تصبح مُتاحة لكل المهتمين بتاريخ سورية وحضارتها؟