1

مئة عام على إعلان دولة لبنان الكبير – لبنان يتذكّر ولا يحتفل

لا، لم يتعلم اللبنانيون من تجارب الماضي المُرّة ولا زالوا يقاربون الأمور بنفس الشكل منذ مئة عام ويبدو أنهم سيستمرون في دفن رؤوسهم بالرمال كالنعامة ولن يطلِّقوا آفة التكاذب المشترك، ولأمد ليس بقصير.

أولاً: دولة لبنان لم تتأسس، لقد بنيت من دون أساس.

تنشأ الدول بإرادة عامة واحدة مستقلة وليس بترتيبات وتسويات يتخذها المحتلون تحقيقاً لمصالحهم وبما يؤمن لهم دوام تحكمهم وهيمنتهم. إنها تنشأ بإرادة عامة واحدة مستقلة تحقيقاً لمصالح عامة واحدة ناتجة عن وحدة الحياة الاجتماعية الاقتصادية المادية والروحية للجماعة البشرية التي تبلغ مرحلة إدراك وحدة مصالحها ووحدة مصيرها في وطنها الواحد. ولا تنشأ الدول المستقلة السيدة بإراداتٍ أجنبية ترسم هي حدود الوطن وتّكبره أو تصغره أو تفصّله على قياس مصالحها؛ ووكلائهم ودوام سيطرتهم وهيمنتهم على الحاضر والمستقبل.

إن الأساس الثابت والمكين للدول المستقلة السيدة هو الإرادة العامة الواحدة تحقيقاً للمصلحة العامة الواحدة، فهل بُنيت دولة لبنان على هذا الأساس أم وُجِدت لأسباب أخرى وبإرادة أخرى تحقيقاً لمصلحة أخرى؟ هل كان لدى سكان جبل لبنان سنة 1920 شعورًا موحدًا بهوية وطنية مستقلة واحدة وبالتالي إرادة عامة واحدة مستقلة، أم لا؟

بعيدأ عن آرائنا وفلسفاتنا ونظراتنا الى التاريخ والسياسة، دعونا ننظر فقط الى ما توفر من معلومات وحقائق ومجريات للأحداث والظروف التي آلت إلى ولادة دولة لبنان الكبير في 3 آب سنة 1920 عندما أعلن الجنرال الفرنسي غورو: “إني أعلن دولة لبنان الكبير”.

إن المبررات الداخلية الموضوعية لقيام دولة في لبنان كانت طلب الحماية من الاضطهاد الديني للأقلية المسيحية الموجودة بشكل خاص في جبل لبنان، والسعي لقيام كيان سياسي يؤمن لها حقوقاً سياسية ومدنية كانت مفقودة أو منقوصة طيلة عهود طويلة، خاصةً إبان الحكم العثماني الذي دام أكثر من خمسمئة سنة. ففي العقود الثمانية التي سبقت الحرب العالمية الأولى كانت السلطنة العثمانية في مرحلةاحتضار وفي صراع مستمر مع أوروبا ومع الحركات القومية في البلقان وأرمينيا. وكلما خسرت جولة في صراعها هذا كانت شعوبها الإسلامية تميل إلى صبّ غضبها على الأقليات المسيحية التي تعيش في كنفها؛ متهمة إياها بالتعاطف مع أعدائها وبالعمل على نصرتهم. (د. أنطوان الحكيم أستاذ متخصص في تاريخ لبنان والشرق الأدنى- مجلة تحولات عدد أيلول 2019). هكذا كانت الحالة الشعبية اجتماعياً وثقافياً، الدين ونظرته إلى الحياة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والسياسة هو المهيمن في ظل الحكم العثماني الطويل، لا هوية وطنية ولا شعور بوحدة المجتمع ولا شيء من ذلك، وإذا وُجِد شيء منه فزفرات نادرة لا فعالية لها.

خلال هذه العقود من الضعف الواضح الذي أصاب السلطة العثمانية أقيمت أشكال سياسية متعددة في جبل لبنان بضغط من الأوروبيين، وكلها كانت نوعاً من الوضع الخاص أو قل الحكم الذاتي للمسيحيين والدروز، ونظام المتصرفية هو مثل على ذلك. أما مع انهيار السلطة العثمانية كلياً بعد الحرب العالمية الأولى وانحسارها عن سورية كلها، وجبل لبنان ضمنها، فقد تطورت هذه الأشكال السياسية لتصبح كياناً سياسياً كاملاً أي دولة كاملة تحت عباءة المنتصرين في الحرب وحسب مشيئتهم. ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم، أي منذ مئة عام، لا زالت شعارات حقوق المسيحيين وحقوق المسلمين وحقوق المذاهب والطوائف هي المهيمنة في ثقافة اللبنانيين السياسية على حساب حقوق المواطنة الواحدة المفترض أن تسود في أية دولة ديموقراطية مستقلة ذات سيادة. إن شعارات الأقليات والأكثريات والتوازن والمشاركة والتعايش والعيش المشترك، وهي شعارات ليست موجودة في أية دولة من دول العالم غير دولة لبنان، هي شعارات تعبِّر تعبيراً واضحاً وجلياً عن أن هذه الدولة قد ٌرُكِّبت تركيباً إصطناعياً لتأمين حقوق فئة طائفية معينة وهندسة علاقاتها مع بقية الفئات الطائفية الأخرى الموجودة معها في وطن واحد. وبديهي أن هذا الوضع ليس وضعاً طبيعياً سليماً وهو معرّض للاهتزاز والخلل عند أول إختبار وأول أزمة وأول تجربة صعبة. بديهي إذاً أنه لم تكن هناك إرادة عامة واحدة لشعب مدرك لوحدة حياته ووحدة مصالحه ووحدة مصيره في وطنه الواحد، وبالتالي لم يكن هناك أساس سليم لقيام دولة مستقلة تعبِّر عن إرادة عامة مستقلة. يقول في ذلك عالم الاجتماع والفيلسوف والسياسي الشهيد أنطون سعاده “إن في سورية مجتمع طبيعي يُدرَك بداهة يجب أن يجد تعبيره في كيان سياسي واحد، أما دولة لبنان فقد وُجِدت لمبررات جزئية هي مبررات الحماية الدينية التي كانت صحيحة في زمن الاضطهاد الديني، أما مع زوال الإضطهاد وفصل الدين عن الدولة ووعي الشعب لوحدة حياته ومصالحه ومصيره في وطنه الواحد فلا يعود للمخاوف الدينية ومبرراتها دور في نشوء الكيانات السياسية الانفصالية”. ولفهم هذا القول يكفي أن نتصور في سورية الطبيعية شعباً مؤلفاً من طائفة دينية واحدة مسيحية كانت أو إسلامية، فهل كنا شهدنا ميلاً الى تجزئتها وإنفصال أجزائها عن بعضها في كيانات سياسية مستقلة متعددة؟ طبعاً لا.

ثانياً: تقطيع الحدود والضم والفصل والولادة القيصرية.

إن تعبير لبنان “الكبير” يدل على أنه كان هناك لبنان صغير. والحقيقة أن لبنان هو اسم لجبل في سورية قبل أن يجري تكبيره ليصبح فيه دولة. وإن تكبير لبنان وضم طرابلس وبيروت وصيدا وصور والبقاع إليه قد شهد أخذاً ورداً كثيرَيْن وكانت له معارضات وممانعات كما قبولاً وموافقات، وكله لحسابات المصالح الطائفية وتوازناتها ومصالح الدولة الفرنسية المسيطرة بعد الحرب والمنتدبة والوصية عليه. وهذا ما دفع الاميركيين الذين كانوا يتطلعون لإنتزاع دور لهم في العالم على حساب الاوروبيين، الى إرسال بعثة تقصي حقائق وإستطلاع رأي بعيداً عن إرادة الفرنسيين واستبدادهم ومن والاهم من سكان جبل لبنان وبشكل خاص الأكليروس الماروني وعلى راسه البطريرك الياس الحويك. هذه البعثة أو اللجنة التي أرسلها الرئيس الاميركي ولسون وكانت برئاسة هنري كينغ وعضوية شارل كراين عارضها الفرنسيون والإنكليز ورفضوا المشاركة فيها لأنها كانت ستنقل حقيقة أن غالبية السكان وقتذاك كانت تعارض فصل لبنان عن سورية وإنشاء دولة مستقلة فيه. وبالفعل فقد حصلت لجنة كينغ- كراين على هذه النتيجة التي لم ترض الفرنسيين.

والحقيقة أن المعارضة اللبنانية لم تقتصر على معارضة الانفصال وإنشاء دولة منفصلة عن سورية، بل شملت أيضاً معارضة حدود الدولة الجديدة بعد تقريرها، أي معارضة ضم أو فصل هذه المدينة أو تلك وإلحاقها بدولة لبنان أو فصلها عنه. حتى أن الشيخ يوسف الجميِّل مثلاً كان يعارض بشدة إلحاق بيروت وطرابلس بدولة لبنان، وكان ينسق في هذا الموضوع مع روبير دوكاي أمين عام المفوضية القرنسية العليا في بيروت، وكان الجنرال الفرنسي غورو رئيس السلطة الانتدابية قد أرسله إلى باريس لمتابعة المداولات المتعلقة بهذا الموضوع مع الحكومة الفرنسية (د. أنطوان الحكيم أستاذ متخصص في تاريخ لبنان والشرق الأدنى- مجلة تحولات عدد أيلول 2019).

ويروى أيضاً أن الفرنسيين كانوا يلحظون ضم منطقة عكار كلها وما بعدها مما يصل إلى تل كلخ ووادي النصارى عند مرمريتا وصافيتا وغيرهما، لكن المطران عريضة عارض ذلك بشدة لأن ضم تلك المناطق يعني تكاثر طائفة الروم الأورثوذوكس ومنافستها عددياً للطائفة المارونية في الدولة العتيدة. وقد رأى المطران أن تكون الحدود عند النهر عند المنطقة التي سميت لاحقاً على اسمه: “العريضة”.

يضاف إلى ذلك أن المطالبين بدولة لبنان الكبير خفّ حماسهم لضم صور وصيدا ومرجعيون إلى لبنان، لتصل حدوده الجنوبية إلى رأس الناقورة، بعد التعديات الدموية على القرى المسيحية في جبل عامل ربيع عام 1920 (نفس المصدر). لكن الإرادة الفرنسية اتخذت قراراً بضم “الأقضية الأربعة” وهو القرار رقم 299 تاريخ 3 آب 1920 مستنداً الى معاهدة “سيفر” وإلى ما اتّفِق عليه في “سان ريمو” وهذه معاهدات واتفاقات دول أجنبية لا دور للبنانيين فيها.

ولم تقتصر المعارضة اللبنانية للانفصال عن سورية على مرحلة 1920 بل تعدتها الى سنة 1936 حيث إنعقد ما سُمّي مؤتمر الساحل في 10 آذار في منزل الزعيم البيروتي سليم علي سلام، وفي هذا المؤتمر برز إتجاهان: أصرت الأكثرية على الوحدة السورية بينما رأت أقلية بقيادة كاظم الصلح أن الأولوية يجب أن تعطى لمسألة الدولة المستقلة من أجل وضع حد للانتداب على أن يُعَالج موضوع الوحدة السورية في مرحلة لاحقة (نفس المصدر).

ومثل كل القضايا التاريخية التي هي موضع تأويلات ومزج الوقائع التاريخية بالسياسة والآراء السياسية، فقد وُجِد من المؤرخين من اعتبروا أن الدولة اللبنانية قد نشأت فعلاً تعبيراً عن إرادة اللبنانيين الجامعة. فالدكتور عصام خليفة وهو استاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية اليوم، يقول: “الدولة اللبنانية لم تفصل عن سورية كما يعتقد البعض، إنها إنبثاق للذاتية التاريخية اللبنانية التي تعود على الأقل إلى القرن السادس عشر وقد ولدت وتجسدت هذه الذاتية في الإمارة المعنية ثم الشهابية وفي القائمقاميتين والمتصرفية” (مجلة تحولات أيلول 2019). هكذا يريد الدكتور خليفة، لكنه لم يستطع الإبحار في التاريخ والتوغل فيه بحثاً عن “الذاتية التاريخية اللبنانية” إلّا للقرن السادس عشر، في وقت أن تاريخ الحضارة في بلادنا المقدسة تمتد لآلاف عديدة من السنين، وما تاريخ المدن الكنعانية والفينيقية إلا حقبة واحدة من حقبات التاريخ المجيد الذي شمل سورية كلها منذ ما قبل الزمن التاريخي الجلي. ولا يخفى أن السيد المسيح قد تكلم على “فينيقيا سورية” التي كانت تمتد على الساحل السوري كله من خليج الاسكندرون إلى تخوم سيناء شاملة فلسطين كلها، وأن دمشق كانت في أحد المراحل عاصمة “فينيقيا البرّية”.

إن مزج التاريخ بالآراء والرغبات السياسية يؤدي بالنهاية إلى تزوير التاريخ وحجب الحقائق عن الشعب. مثالاً على ذلك فإن أغلب اللبنانيين اليوم لا يعرفون أن حدود لبنان الكبير الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو شملت مزارع شبعا والقرى السبعة والتي تُقدر مساحتها بـ 96 ألف متر مربع، لكن بعض غُلات الانعزالية الانفصالية يتنكرون لهذه الأجزاء اللبنانية إذعاناً لإرادة الأميركيين ودولة العدو حتى لا ينخرطوا في المطالبة بتحريرها ودعم المقاومة.

ثالثاً: فصل الدين عن الدولة.

إن اللبنانيين اليوم، وقد كانوا دائماً، شعب حي سليل تاريخ حضاري وعمراني واغل في التاريخ أكثر بكثير من حدود القرن السادس عشر. لكن اللبنانيين مشكلتهم الرئيسة هي “فقدان الوجدان القومي” أي ضياع الهوية وضعف الإدراك والتنبه لوحدة الحياة والمصالح والمصير التي تربطهم وتجمعهم ليس فقط بين بعضهم البعض بل أيضاً مع بقية الشعب السوري على امتداد وطنهم السوري الطبيعي، وذلك بسبب تاريخ طويل من الاحتلال التركي العثماني التجهيلي الذي أضعفَ وعيهم لوحدة حياتهم ودمر وحدتهم الاجتماعية وقضى على ذاكرتهم التاريخية ونزع السلام الداخلي منهم وزرع فيهم بدلاً من ذلك ذاكرة الإضطهاد المتبادل والحروب الداخلية والخوف والتخويف والحذر من بعضهم البعض وعدم الثقة ببعضهم البعض. إن آفة الطائفية هي اللعنة التي حلت عليهم خاصةً إبان الاحتلال التجهيلي التركي العثماني ثم الانتداب الفرنسي.

إن بقاء اللبنانيين وكافة السوريين أسرى النعرات الطائفية وإعتبارات وشعارات “التعايش” والتوازن التي تستبطن إنقساماً وطنياً حادّاً وخبيثاً وتتنافى مع المبادئ الأولى لمعنى الدولة الواحدة للمجتمع الواحد في الوطن الواحد، معناه تآكلاً ذاتياً بطيئاً. بل إن بقاء اللبنانيين في هذا الأسر وهذا التعايش الحذِر، معناه البقاء في دوامة التدمير الذاتي وفي دوامة الأزمات البنيوية الخطيرة التي تدمِّر كل شيء على رؤوس الجميع.

إن الترياق قد أوجده من وضع مبادىء الإصلاح البنيوي الجذري الحقيقي وهي:

فصل الدين عن الدولة، إعتماد قضاء مدني موحد يخضع له جميع المواطنين بعيداً عن هيمنة القضاء الديني المتعدد، إزالة كافة الحواجز السياسية والاجتماعية والحقوقية بين مختلف الطوائف والمذاهب.

إن الشعب في لبنان هو شعب حي لا خوف عليه ومنه في دولة مدنية تساوي الجميع في حقوقها المدنية والسياسية. إن اللبنانيين قد تقبلوا وانخرطوا في كنف الدول المدنية في مناطق هجرتهم وانتشارهم حيث فصل كامل للدين عن الدولة، فلماذا الخوف من عدم تقبلهم وانخراطهم في دولة مدنية في لبنان؟!!

إن اقتتالنا في الأرض على السماء قد أفقدنا الأرض والسماء معاً. إن اللبنانيين يستحقون دولة مدنية في بلادهم، ليس في لبنان وحده بل في سورية كلها، وفيها سينهضون ويبرهنون دون شك عن جدارة في العلم والفن والإبداع والبناء والعمران كما في المقاومة والحرب والانتصار.

إن اللبنانيين لا يحتفلون اليوم بذكرى “إعلان دولة لبنان الكبير” التي بنيت على زغل وعلى مشاكل موقوتة تتفجر تباعاً منذ إعلانها سنة 1920، فالاحتفال يكون احتفالاً بذكرى سعيدة وليس بذكرى ملتبسة حَمّالة أزمات وحروب وتفجرات داخلية أليمة. إن اللبنانيين اليوم يتذكرون ولا يحتفلون. وحين يأتي أوان احتفالهم بتأسيس دولة مدنية لهم جميعهم دون امتيازات لفئة على أخرى سيبقون يعانون، ولا بد أن يولد من المعاناة شيئاً جديداً فيه كل الحق والخير والجمال.