لو أنهم ديَّنوا المنفذيّة بقرة!
زيد قطريب
مدينٌ أنا باعتذار إلى الأمة السورية والحزب. ففي عام 1988، كنا طلابًا في المرحلة الثانوية، وقد خضعنا لدورة إدارية في ضهور الشوير باسم الأمين الشهيد حبيب كيروز، أدارها الأمين حيدر حاج إسماعيل، وكان هناك امتحان في نهاية الدورة، أحدُ أسئلته يقول: كم من السنوات، يلزم الأمة السورية كي تنتصر، حسب اعتقادك؟
يومها، أجبتُ بكاملِ تفاؤلِ “ناظر التربية والشباب” الذي كنتُهُ: عشر سنوات! ولم أصغِ لنظرة الشاعر داخلي الذي كان يقول: هيهات!
لا أدري إن كنتُ قد ارتكبت خيانةً ما، أم كنتُ مغرقًا في تفاؤل الشباب، أم كان من المفترض أن أجيب بأن الأمل ليس موجودًا على المدى المنظور. أو في الحد الأدنى، كان يجب أن أقول إن العمل الذي تقوم به الحركة على الأرض ليس من المستوى الذي يبشر بالنصر القريب!
منفذيتنا كانت نائية وبعيدةً عن المركز، لكنها تتأثر بشدة بأي حدث يمكن أن يجري في شارع الحمرا ببيروت أو داخل مركز الحزب. العمليات الاستشهادية والانشقاقات واغتيالات الرفقاء والتنظيمات السرية، كانت تتجاوز عقبة الجغرافيا لتبدو وكأنها وُلدت في ذلك الريف الحموي الفقير، التي يسميه البعض “قلعة الحزب”، نظرًا لأطراف منفذية سلمية المترامية وعمق علاقتها بالتيار الشعبي الذي كان يشهد صراعات حادة بين التيارات السياسية الكثيرة التي تنتشر بقوة في البلدة. كنا قادرين على الانتشار والتلاشي في آن. ثماني مديريات يمكن أن يتحولوا إلى أشلاء إذا اختلفت القيادات وهرع “الكرادلة” إلى الاصطفافات وتبادل الإدانات والاتهام. كأن هذا الحزب نبتة تنمو في العراء، نبتة تكبر بلا سقاية المركز، لأنها مزروعة بطريقة “البعل”، وبالتالي فهي تنتظر أن يحنّ عليها الإله بعل ببعض المطر حتى تنهض لتمدّ أذرعها باتجاه الأعلى، وتحيا!
عمليًا، لم يكن يلزمنا دورةٌ في النظام الداخلي والدستور، فنحن بطبيعة الحال حفظناهما عن ظهر قلب. تلك الدورات رغم أهميتها في تكريس التواصل والنقاش والتفاعل بين القوميين، إلا أنني كنت أفكر لو أنهم يديّنونَ المنفذية بقرة، تكون نواةً لمشروع صغير يعمل على الاكتفاء الذاتي ومن ثم التصدير، عوضًا عن حفلات الاستقبال التي كانت تقام في المناسبات، أو حتى بدلاً من الدورات المركزية التي يمكن الاستعاضة عنها بالمحلية، اقتصادًا في التكاليف، لأجل أن يوظف الفائض في مشاريع إنتاجية تعزز مكانة الحزب في النسيج الاجتماعي، وتجعل العقيدة مرتبطة بالعمل.
ألا يحتاج العمل السياسي الجيد إلى اقتصاد جيد كي تدبّ الحيوية فيه ويستمر؟ ثمّ من كرّس حالة العطالة الاقتصادية عند القوميين وجعلهم بعيدين عن الإنتاج القومي، رغم نجاح الكثيرين منهم في اقتصادياتهم الفردية؟ نعم لقد نجح القوميون في مشاريع الأفراد، وفشلوا في مشاريع المتحدات!
كان من الصعب أن أرفع كتابًا أقول فيه للقيادة: أعطوا المنفذية بقرة. بينما كان النقاش يجري حول انحرافات “مقالات في المنهج” لمروان فارس، وصوابية القراءة الجديدة للمحاضرات العشر التي وضعها انعام رعد. وهل كان انقلاب الـ61 صحيحًا من الناحية الاستراتيجية، أم ارتجاليًا متسرعًا يحتاج إلى القراءة المعمقة والتنسيق الشديد قبل ساعة الصفر؟
بصراحة، لقد شغلت البقرة مخّي كثيرًا، وكنتُ أطبّق مقولة “المتحد الأتم” على مشروعي الصغير، الذي سيدرّ الحليب على الحزب ويجعله قدوة في الإنتاج وليس في التنظير. كان الرفقاء يقتطعون تصريحات انعام رعد من جريدة تشرين الشامية، ويضعون خطوطًا عريضة تحت ما يسمونها “الانحرافات العقائدية”، وكنت أقول لهم دعونا نشتري بقرة، ونستعيرُ عدة دونمات من الرفيق فوزي عجوب كي نحولها إلى قرية قومية، ثم نوسّع المشروع لنكافح البطالة ونثبت صحة الاقتصاد القومي بتوزيع الثروة بناء على حجم وجودة الإنتاج، وليس على ساعات العمل كما يقول الشيوعيون! إن بقرة واحدة، أنجح من عشرات الخطط الإذاعية التي كانت تُدمّر بفعل الانشقاقات والخلافات!
بالطبع، لن يهرع القادة “المليارديريون” إلى بيع قصورهم التي بنوها من أموال الحزب، في المزاد العلني، من أجل تأسيس شركة للأجبان والألبان يملكها أبناء النهضة. لن يهدوا “سخلةً” إلى مديريةٍ تقاتل بأظافرها على خطوط النار. سيكتفون بإرسال البيانات المختومة بـ”دوموا للحق والجهاد”، ونحن سنقول: كونوا للحق والإنتاج. فلا جهاد من دون إنتاج.. هكذا تحيا سوريا.