1

لماذا غابت ملتقيات دمشق الثقافية الأهلية؟

من جلسات “ثلاثاء شعر”

شام قطريب

يتحسّر أصحاب الملتقيات الثقافية والناشطون فيها، على أيام زمان، ففي بداية الحرب، شهدت دمشق تأسيس عدد كبير من الملتقيات الثقافية التي كانت تقيم نشاطاتها أسبوعياً في الشام القديمة بلا تراخيص أو أذونات، فقد كانت بمثابة النافذة التي يطل منها المشتغلون في الفنون كي يقولوا كلمتهم ويثبتوا أنهم مازالوا على قيد الحياة.. هكذا شهدنا تأسيس أول لقاء حمل عنوان “ثلاثاء شعر” عام 2013، ثم تبعه لقاء “شعر وخمر” ولاحقاً “أضواء المدينة” وعدد كبير من الملتقيات التي اختصت بالشعر والأدب والموسيقا والغناء، بل إن بعضها ذهب في الطموح بشكل أكبر عندما راهن على ولادة نصو

ص جديدة مختلفة في الشكل والمضمون انسجاماً مع الأسئلة الجديدة التي أثيرت في الحرب. كما انتعشت في تلك الفترة ظاهرة توقيع الكتب الجديدة مع القراءات النقدية والإبداعية، مثلما ظهرت فرق غنائية وموسيقية شبابية أهمها تلك التي اشتغلت في فضاء جمعية “نحنا”.. لكن ما حدث بعد ذلك أحبط الآمال وبدد الصورة الناصعة للثقافة الأهلية التي راهن الجميع عليه

من أمسيات لقاء “يا مال الشام.. شعر وخمر”

ا في الحضور والاستقطاب وإثارة الأسئلة الإشكالية ومتابعة القضايا الهامة المتعلقة بالفكر وحال الفنون ودورها في المراحل الحاسمة التي يمر بها المجتمع..

الساعة الرملية للملتقيات الثقافية الأهلية راحت تخسر وتنفد رمالها رويداً مع الوقت، فأغلق بعضها أبوابه، وبعضها الآخر صار يعقد لقاءاته كل فترة طويلة من الزمن، كما بدأت ظاهرة جديدة بالانتشار وهي الثقافة الأهلية الاستعراضية مترافقة مع الشهادات الفخرية والأسماء الخلبية لملتقيات لا تنطوي على أهمية تذكر لكنها تتبنى عناوين كبيرة وتسوق مواهب أدبية ضعيفة، الأمر الذي فرّغ تلك الملتقيات من جدّيتها وجعلها أقرب إلى برامج التسلية للأسف!

اليوم لا يمكن الحديث عن ملتقيات ثقافية أهلية فعالة في دمشق، فقد استُنزفت التجربة دون أن تؤتي ثمارها المنتظرة على صعيد ولادة أنماط جديدة من الكتابة أو حدوث انعطافات في التفكير أو الأداء، فما يطفو على السطح غالباً هو نشاطات استعراضية في أماكن فارهة ونصوص كلاسيكية تؤكد العودة بالمخيلة إلى الوراء!

هاجر معظم كتاب “ثلاثاء شعر” وأُغلق المكان في وجه من تبقى منهم، وخلال فترة العمل تمكن اللقاء من طباعة كتابين شعريين لأحد عشر شاباً حملت نصوصهم ملامح الذ

ائقة الجديدة التي نمت مع سنين الحرب الأولى عام 2013 وصولاً إلى 2020 حيث ندرت تلك اللقاءات كثيراً.. يقول أحمد سبيناتي، أحد الشعراء المشاركين في الكتاب الأول “

كريستال طائش” الذي صدر عن “ثلاثاء شعر” عام 2013:

“لقد عاملتنا الحرب بقسوة ففتكت بالمكان وبأعضاء المجموعة الذين جمعهم هاجس النص الجديد.. لقد تشردنا في أقاصي الأرض وهامت الكتابات على وجوهها، وحلت مكان أعشابنا البرية، حدائقُ بأزهار بلاستيكية تعيد نغمة الماضي في الرثاء والبكاء على الأطلال.. لقد انتهينا إلى جلسات نادرة تضم كتاباً قليلين لكن عزاءنا بالكتابة يجعلنا نستمر بالحلم..”.

أوضاع اقتصادية صعبة أثرت على لقاءات دمشق الثقافية بالإضافة إلى ندرة الأمكنة التي يمكنها استقبال هذا النوع من النشاطات عدا عن سقوط القذائف أثناء الحرب بشكل عشوائي في شوارع دمشق.. يقول أحمد كنعان مؤسس ومدير لقاء “يا مال الشام.. شعر وخمر”:

أحمد كنعان مؤسس ومدير “يا مال الشام..شعر وخمر”

“أثر كورونا على نشاطنا كما تأثرت الحياة عموماً وصدرت قرارات بإيقاف هكذا نشاطات، وعندما سمح بإعادة التجمعات كانت الأسعار قد تضاعفت ما دفعنا للتريث، حيث وجدنا أنفسنا أمام سؤال هل سيستطيع الجمهور القدوم إلى مقهى أو ناد ودفع ثمن مشروبه وكم سيكون ثمن هذا المشروب؟ ومعلوم

للجميع أن الطيف الأوسع من الشعب السوري بات يعاني من القلة والعوز.. نحن أمام حل وحيد وهو أن نحصل على رعايات لائقة بهكذا نشاط وإن استطعنا ذلك فلن يكون ملتقى “يا مال الشام شعر وخمر” كما كان أيام الحرب ففي ذلك الوقت كان لدينا غايات كثيرة من ضمنها تقديم صورة المجتمع السوري الحقيقية وتسليط الضوء على أن ما يجري من فظاعات هو أمر طارىء ومؤقت، ومن غاياتنا أيضاً إتاحة الفرص أمام الأصوات الشعرية الجديدة، وكان منبرنا مفتوحاً للجميع دون فرض أي معيار وكنا نترك الحكم للجمهور وهذا ما جعلنا دون قصد شركاء في تسويق أدب رديء.. اليوم إذا تمكنا من العودة فسنعتمد لجنة خبراء لتقييم المشاركات ولن يكون الوقوف على منبرنا أمراً سهلاً”! أمير عدنان مصطفى، من شعراء “ثلاثاء شعر” قال:

 

“لم يكن ثلاثاء شعر بالنسبة لي نزهة إلى حديقة، أو تناول شاي ساخن مع صديقة. الأمر كان أشبه بامتحان دوري لقدراتي على تلقي الشعر.. ببساطة ودون مناورات كانت الحرب السورية مع بداية ثلاثاء، شهدنا واللقاء تطورات القيح السوري، ولزمنا المجاز علِّيّة للخوف، والقلق، والترقب، حين كانت تراتبية القذائف تنفر من تعنتنا ولذتنا الغافية على طرفي الورق والعرق البلدي، ثلاثاء جاء رداً على جشع الحرب

أمير عدنان مصطفى

في نهشنا، وإن بدت المفردة هشة أمام قسوة البارود والميديا معاً؛ فمع تطورات الحرب برزت أنواع من الملتقيات تعنى بتلميع “ستارز” في الشعر والقصة والرواية من جانب، ومن جانب آخر تلاحق محموم لرصد تريندات وهمية، ومال مشبوه في الكثير من الأحيان.. ثلاثاء قال “مرحبا” كبيرة للإبداع،  رغم انعدام مكان نجلس فيه، وجد اللقاء بمحبيه وشغافه نافذة لتقديم كتابين شعريين، طرح من خلالهما ستة أسماء شعرية تتوزع الآن في سوريا والعالم.. تجربة فريدة، فهو أول ملتقى أهلي سوري اهتم بالشعر، حلله وفنده، مع لقاءات دورية لتجارب شعرية سورية وعربية، ولصعوبة الظروف الآن بعد أن طفش كل السوريين من ذواتهم، داخل البلد وخارجها؛ أبقى أردد على المستوى الشخصي: مات الشاعر في وطنه جائعاً.. لايردد الخبز بل يتلقفه بمجاز الحياة”.

يراهن الجميع على الثقافة الأهلية ودورها في اكتشاف آفاق جديدة للكتابة، فإذا كانت هذه المرحلة قد أعادت الكثير من الأسئلة المعرفية المؤجلة، فإن أدوات الكتابة تحتاج هي

الأخرى إلى شحذ وإعادة تلميع وربما استبدال بمعدات تعبيرية أخرى تستطيع التعبير

عمّا يجري من جانب ومن ناحية أخرى تتمكن من استشراف آفاق المستقبل والتأثير بالذائقة التي ركنت زمناً طويلاً إلى التقليد!