1

قراءة في كتاب “أدبية المكان في الرواية الفلسطينية”

إنْ قدّم كتاب “أدبية المكان في الرواية الفلسطينية” للدكتور منير الحايك* دراسة علمية منهجية لروايات كاتبين فلسطينين كبيرين من جيلين مختلفين، سحر خليفة وغسان كنفاني، فإن البعد الوجداني يتجلى في الإهداء: “إليه دائماً، المكان الذي يسكننا، حتى وإن لم نسكنه، فلسطين.” إهداء يسوّغ الشغف في البحث والانكباب على مجوعة من أجمل ما أنتج أدبنا من روايات في زمن يتسابق فيه التجار لإعلان حلول عصر انهيار القيم وتسليم المكان وأهله للغزاة. يؤكد الكاتب في المقدمة أنه يرى في الخوض في هذا الموضوع واجباً يحتّمه عليه التزامه وقناعته بضرورة الاستمرار في إعلاء الأصوات الإبداعية والنقدية حتى لا ينتصر باطل الموت على الحق في الحياة. إذ لا يزال الأدب والفن وسيلتين ناجعتين من وسائل الصراع في سبيل تحرير الأرض والإنسان والدفاع عن المظلوم للوصول إلى حياة كريمة. وإن كان الغرب، على مدى العقود الأخيرة، قد اعترض على مبدأ الأدب الملتزم وسخّفه، فإن هذا النوع من الأدب، في بلاد لا تملك ترف الانغماس في السرديات الهامشية، وحيث قضايا الموت والحياة تنتظر الشعوب عند كل استحقاق، يصبح حيوياً ويشكل واحداً من الأسلحة المتوفرة والتي بدت للعدو، في ظروف معينة، من الخطورة بحيث قام بتخطيط وتنفيذ اغتيال الكبير غسان كنفاني. حتى الغرب نفسه، وهو يعيش منذ عقود نوعاً من الاستقرار السياسي، لا يزال يلجأ إلى هذا النوع من الأدب حين تواجه مجتمعاته مسائل حيوية، فمسألة البيئة على سبيل المثال، تشكل موضوعاً للكثير من الروايات التي تأخذ على عاتقها مهمة خلق الوعي للأخطار التي تتهددها، لدرجة أننا رأينا، في العقود الاخيرة، في عالم النقد الأدبي، نشأة ما يسمى بالنقد البيئي écocritique.

تندرج دراسة منير الحايك في إطار تيار نقدي عالمي يدخل ضمن الدراسات الثقافية بموازاة تيارات نقدية جديدة كالنقد البيئي، وهو النقد الجغرافي géocritique الذي يركز على أهمية البيئة التي ترسمها الرواية فتكون مسرحاً للأحداث ومجالاً تتحرك فيه الشخصيات وتتفاعل معه، تؤثّر فيه وتتأثربه، كما يشير إلى علاقة المكان بالزمان والتحولات التي قد تطرأ عليه. يعمد الكاتب إلى دراسة المكان في أربع روايات: “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني، و”حبي الأول” و”أرض وسماء” لسحر خليفة، “من خلال الهندسة التي تقوم في البداية على تحديد الدوائر المكانية، والتقاطب الحاصل بينها، وكيف يتم اختراق الحدود بيت هذه الدوائر”.

ولعل أبرز ما يميز روايات خليفة وكنفاني، أنها تتقن فن الأخذ بيد القارئ وجعله شريكاً في عملية الإبداع،  وبشكل خاص في طرح الاسئلة المناسبة حول مسألة احتلال فلسطين وتهجير أرضها وسبل المراجهة التي لجأ إليها المقاومون، كما تشير إلى بعض المنافذ للخروج من دائرة المكان المحاصَر المفرغة وتَسَلُّم قرار المصير، كما في عبارة غسان كنفاني الشهيرة في رواية “رجال في الشمس”: “لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟” وكما جسدت سحر خليفة الفكرة حين أوجدت في رواية “أرض وسماء” مكاناً متخيلاً أطلقت عليه اسم “الوادي السعيد”، حيث تصوّر سعاده وهو يعمل على تطبيق أفكاره والمبادئ التي وضعها، فيقوم بتنفيذ خطط تحول هذا الوادي إلى واحة تسود فيها قيم الإنسان الجديد الذي تكلم عليه ويسود فيها نظام مدني قائم على الإنتاج الزراعي والصناعي الحديث، مروج للثقافة الراقية، صانع للفرح. يظهر هذا المكان-الحلم في الرواية بصفته تجربة صغيرة في مكان محدد microcosme ستعمم على أرجاء الأمة السورية. يكتب الحايك: “مع أن الوادي السعيد كان مكاناً متخيلاً، إلا أنه ارتكز على مكان مرجعي، في المتن الشمالي في جبل لبنان، وتحديداً في قرية الشوير والقرى المحيطة حيث كانت نشأة سعاده وداره وعرزاله.” هكذا، تصبح الرواية نافذة على ما كان وما يمكن أن يكون، فتساهم في مواجهة الواقع المظلم، إذ ترسم الخطوط التي تبدو في الواقع متعرجة ومتشابكة حتى يصعب تمييزها، ومن هذا الرسم تسمح للقارئ بالخروج بنظرة أكثر وضوحاً. ليست مهمتها تقديم الحلول والخلاصات، بل مساعدة القارئ على التوصل إلى تلك الخلاصات بعد أن يتمكن من الدخول في دهاليزها والسير عبرها إلى نقطة وصول عليه أن يجدها بنفسه، فكل الروايات التي تشملها الدراسة تطرح مشكلة غياب الوعي لدى الكثير من أبناء الشعب، وإمكانية الخلاص إذا ما تسلحوا به.

هكذا يكون النقد الأدبي جسراً يعيد وصل القارئ بالأدب المعبر عن واقع الوطن ويسهم في عملية الصراع الفكري بوساطة نص علميّ ينطلق من أسس وجدانية ليكشف عن أبعاد النص الإبداعي.

 

*منير الحايك، حاصل على دكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية.

له في الشعر: زلفى (حركة الريف الثقافية، 2008)

له في الرواية: مترو دبي (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2012)

88 (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014)

القبر رقم 779 (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2018)