1

في ملف الدين والدولة والمواطنه – عاطف عطية

 

 

 

عزيزي أسامة؛

ما كتبه الرفيق شحادي عن مقالتي حق له. وقد أظهر بعض فحواها في الندوة التي عقدتها مؤسسة سعادة للثقافة في وقت سابق. وقد أجبته عن بعض تساؤلاته حولها، وصحّحت له بعض الأفكار التي يحملها عني، وأنا لم ألتق به منذ أكثر من 40 سنة، وكنا على معرفة وثيقة.

وأفهمته كما أفهمت جميع من كان مشاركاً في الندوة أنني لم أحظَ بشرف حمل رتبة الأمانة، ولا خطر في بالي أن أعمل من أجل الحصول عليها، ولا تعنيني في شيء، كما لا يعنيني الذين يحملونها لذاتها، بل لذوات هؤلاء الذين قدّموا في رحاب النهضة ما يشرّفها، على قدر ما تشرّفوا بها عندما حملوها.

ولا تنس أن الكثيرين من هؤلاء دمّروا الحزب ومزّقوه نتفاً، وتغذّوا من شرايينه، وارتهنوا باسمه فرهنوه، وتسلقوا على أكتافه، وأذلّوه ليصلوا، وارتزقوا باسمه، فاتضعوا، بدل أن يرتفعوا ليرفعوه. هؤلاء في أكثريتهم الساحقة من الأمناء يا عزيزي. ولا تنس أيضاً، أن الكثيرين أيضاً من هؤلاء قبعوا في منازلهم، وملؤوا أفواههم من المياه الدافئة وأنت تعلم كيف ولمَ.

هذا أولاً.

أما ثانياً، فأنا لم أعلن عن نفسي أنني مبشّر في الحزب، ولا حامل للعقيدة القومية الاجتماعية على كتفي، أدور فيها من مجلس إلى مجلس، لأحظى بشهادة كوني قومياً اجتماعيا. فثمة الكثيرون من هؤلاء، وأرجو لهم كمال العافية وصحة النفس والبدن.. هذا حقلهم، وتلك مهامهم. وأنا أغبطهم على ذلك. إنه التبشير يا سيدي، وأنا لا أتقنه. هؤلاء تملؤهم الغبطة والبهجة في عملهم التبشيري هذا، ومن بعد، كفى الله المؤمنين شر القتال. لذلك أنا لم أكتب بوجهين، الوجه التبشيري، والوجه البحثي. ولا بأسلوبين، أسلوب القومي في الداخل، والمحايد في الخارج. هذه الأحكام القيمية تخفّف من رزانة النقد، وتؤكد على وحدانية التوجه في التعاطي مع الفكر، وهو أسلوب مجّه الباحثون، ويتعاطى به اليوم أكثر الناس تعصّباً وتطرفاً.

أنا باحث اجتماعي، أكتب بوجه واحد وأسلوب واحد لجميع الناس، قوميين وغير قوميين، وأشتغل على المشكلات التي يعاني منها مشرقنا العربي، أمتنا السورية، والعالم العربي في شكل عام.

 أبحث وأحلل أنطلاقاً من فكر سعاده، وبمنهجية قومية اجتماعية تنطلق في المقام الأول من فهم عميق لوحدة المجتمع على اختلاف طوائفة ومذاهبه ومناطقه وإثنياته، ومن الاهتمام بأمور الدنيا، وفصل أمور الدين عن أمور السياسة، ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة، باعتبارهم رجالَ دين، لا أناساً عاديين، ومن أن الناس سواسية في المجتمع، وأمام القانون، ومن أن المجتمع المدني هو حصيلة وعي الناس لانتمائهم، وأن وطنهم هو حصيلة وعي هذا الانتماء، والحصيلة هذه هي المبدعة لنظامه السياسي الاجتماعي في دولة حديثة تقوده وتحميه من تداعيات تناقضات الداخل، وأطماع الخارج. وأنا أؤمن بأن هذا الفهم، بالإيمان والممارسة، هو المفتاح لحل مشكلات المجتمع على كل صعيد. ولا يهمّ، من بعد، إذا اعتبرني شحادي أو غيره، قومياً اجتماعياً أم لا.

جاءت ورقتي لتصبّ في هذا الاتجاه في مناسبة ثقافية منذ خمس عشرة سنة. وصودف أن تداولت والرفيق سركيس أبو زيد في موضوع ندوات سعاده، وإذا كان بامكاني المشاركة، أو إذا كان بالإمكان إرسال مادة مكتوبة لمناقشتها. حصل، وأرسلتها إليه عبر البريد الإلكتروني. وناقشناها. مع العلم أنني غير عليم بتعقيدات التواصل الإلكترونية وخصوصاً زوووم. ولو لم يكن شوقي، ابني، بجانبي لما استطعت التواصل عبر هذه النافذة الصغيرة.

تدخّل شحادي في النقاش.. طبعاً، أنا أشكره لاهتمامه، ولكن يبدو أنه قرأ بتسرّع، ومن خلفية أن كل ما يرد خارج إطار القومية الاجتماعية مردود. وكل ما لا يرتبط بمفردات قاموس القومية الاجتماعية مرفوض. لذلك لم يعط لما هو موجود بين يديه الانتباه اللازم. ولا الجدية في القراءة والنقد. أجبته عن بعض تساؤلاته، وفسّرت له ما هو مقصود من الورقة، وفي أي مناسبة تليت، وما المعنى من مفهومَي المجتمعَين الأهلي والمدني. والمواطنية والوطن، والدينيين والدنيويين، وأين يمكن التقرير والتأكيد، ومتى يمكن طرح الشك في القول. وغيره الكثير. ودخلنا في متاهات التنظير والممارسة، وأهمية قياس الممارسة على النظرية، ومن ثم تقويم الممارسة وإظهار قيمتها المجتمعية..

ومع ذلك، نشر تعقيبه كما هو، وكأن لا نقاش دار حول الورقة، ولا حوار تبعها..

لقد استغرب شحادي إيراد بعض المفاهيم والمصطلاحات في الورقة مثل المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، والمواطنية والدولة المدنية، ليس لأنها مفاهيم ومصطلحات مغلوطة، بل لأنه لم يفهم معناها ولا مرّت في قراءاته المديدة، ولا ظهرت تحت قلم سعاده. حتى تعبير سوسيولوجيا السياسة، لم يمرّ في ذهنه سابقاً. وكانت النتيجة أن صبّ نقده على هذه الطريقة في التعبير، مع أن مجمل كتابات سعاده تدور في فلك سوسيولوجيا السياسة، وسوسيولوجيا الدين، بالإضافة إلى سوسيولوجيا المعرفة. وقد استعمل سعاده المعاني نفسها في تعابير مغايرة.

أما ورقتي، فإنها بحثت في عمق إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، أو بمعنى مرادف، السلطة الدينية والسلطة السياسية. هذه المقاربة استدعت البحث في مفهوم المواطنية، غير المعروف في التراث العربي الإسلامي. ولأن الإشكالية تخص الإسلام والمسلمين، تناول البحث هذه العلاقة بتفاصيلها. هذا كان مقصد هذه الورقة، ولا همَّ آخر لها، وخصوصاً في حدود عدد الصفحات التي احتوتها. وما قام به شحادي في نقده، وهو النقد الذي يمكن ان يوجهه إلى كتاب في الموضوع، لا إلى ورقة محدودة المعالجة والصفحات؛ ما قام به، أقول، لم يخرج عن الأحكام القيمية من مثل الارتباك والتعسف والتردد والضياع في تفاصيل تحليله للموضوع الذي تناولته الورقة. ويأخذ على الكاتب عدم اهتمامه بتحديد وشرح المفاهيم والمصطلحات الواردة فيها، ومهادنته رجال الدين والدينيين في شكل يتخيّل معركة مستمرة مع هؤلاء في حركة دون كيشوتيّة بعيدة عن الواقع بُعد الأفكار الجاهزة والحية في ذهنه، على أهمية قيمتها ورقيّها، عن عالم الواقع. وهو الواقع الذي أوصل الأمة السورية، والعالم العربي، إلى أقصى درجات التوحش والقتل والسحل والتعصب والتدمير؛ وهي الأفعال التي لم يصل إليه أي شعب في العالم مهما كان متخلفاً، في العصر الحديث.

إن الموضوع الأهم الذي يمكن الاضاءة عليه، اليوم، هو التأمل في هذه العلاقة بين الدين والدولة، والتفكّر في كيفية إيجاد ما يمكن أن يكون عليه العيش المشترك بين هذين الضدين بعرفنا ومنطقنا، المتكاملين في عرف غيرنا من الدينيين.

هنا، لم يستوعب شحادي التفريق بين ما هو كائن، وما يمكن أن يكون. كما لم يستوعب ما تعنيه مفردة الدينيين، وكذلك مفردة الدنيويين. ومسألة فهمهما على كثير من البساطة، التي أبى شحادي أن يفهمها على بساطتها. الدينيون كمفردة لا تعني فصل الدين عن الحياة اليومية، ومفردة الدنيوية لا تعني إقصاء الدين عن الدنيا. الديني هو ذلك الذي يؤمن بان الدين جاء لحل جميع مشكلات الحياة على اختلاف أنواعها، والانسان عاجز عن العيش بدون الفعل الديني في الدنيا والآخرة. والدنيوي هو ذلك الذي يعتبر أن الانسان قادر على تسيير حياته في كل شؤونها، والدين جزء من هذه الشؤون. أما أن أحد الملوك الأكاديين قد مارس العلمنة وفصل الدين عن الدولة، فلا يحتاج إلى تعليق. وهو مختلف في مبناه ومعناه عما يعنيه الدين الدولة في أيامنا. والمصيبة أكبر إذا كانت الأمة السورية قد مارست العلمنة وفصل الدين عن الدولة منذ آلاف السنين، وشعبها اليوم، يقتل ويسحل، ويذبح على الهوية بدم بارد، ويدمّر.. باسم الدين، وإن جاءت جلّ هذه الأفعال من خارج دنيانا وبمشاركة من فعل الدينيين عندنا ومباركتهم.