1

في روايته البِكر “المئذنة البيضاء” هل يلعبُ يعرب العيسى دورَ محامي الشيطان؟

جواد ديوب

يدخل علينا يعرب العيسى في روايته الأولى “المئذنة البيضاء” (إصدارات دار المتوسط/2021)، مِن بابِ التشويق والأسئلة الصحفية الاستقصائية وبحيلةٍ روائية ناجحة تجعلنا مباشرةً نشحَنُ عقلنا بالشكوك مع تقدّم الرّوي، ونبحث عن إجاباتٍ ترضي فضولنا: مَن هو “مايك الشرقي” هذا الرجل “الذي يشبه قديساً أو فيلسوفاً أكثر مما يشبه قوّادًا؟” ولماذا كان لديه “عشرون جواز سفر سليمة كلّها؟” وتُروى عنه حكاياتٌ “هي مزيجٌ من أحلام اليقظة ومدائح الطغاة ومقاطع البورنو الدعائية وحبكات الأكشن؟”

فإن كان “مايك الشرقي” شخصيةً حقيقيةً؛ فكَمْ نجحَ الروائي عيسى بتقصّي وتتبع تفاصيلها وأسرارها وخفاياها الأعمق رغم تلك الدرجة العالية من الخطورة التي يقتضيها هذا النوع من التقصّي. وإن كان “غريب الحصو” الذي تحوّل إلى “مايك الشرقي” ومن ثمّ إلى “الشيخ غريب” شخصيةً روائيةً متخيّلةً؛ فأيضًا هنيئًا ليعرب العيسى كيف أنه بحرفيّةِ سبّاكِ أو نسّاجٍ دمشقيّ، عرف كيف يجدل ويقيس ويفصّل ويحبك ويُلبِسُ كلَّ من مَرَّ في هذه الحكاية على مقاساتِ الحبكة النادرة.

في حفل توقيع الرواية الزميل جواد ديوب ويعرب العيسى

تناقضٌ مشوّق بين العنوان والمضمون، أو بين رمزية العنوان وحكايةٍ داعرة أقل ما فيها خطورة هو كلمة “جنس” ثم هناك نكهة السخرية المرة، أو المفارقات الفكاهية، مع سخرية من الخرافات أو الشائعات الشعبية المتداولة بقصد الإساءة أو التفكّه أو لمجرد النميمة وحياكة القصص.

الرواية أصعب بكثير من أن تُختصر لأنها كثيفة الطبقات والحكايات المتناسلة المتداخلة التي تدور كلها حول قُطب الرحى “مايك”؛ إمبراطور المال الذي باع روحه للشيطان، بعد أن طردته مدينته الحبيبة دمشق واستشرت في العداء له فجرّدته من كل شيء حتى من حذائه الذي سُرق على باب المسجد، فتركها نحو بيروت المثقّبة بالرصاص زمن الحرب اللبنانية، فسخرت منه هي أيضًا، كما سخرت من كل العمال السوريين هناك، لكنه تحول – مرة بضربة حظّ قدرية موفقة، ومرات بحدسه الثعلبيّ- إلى “قاتل اقتصادي” وصاحب نفوذ وسيطرة على مسارات شخصياتٍ سياسية لبنانية وعالمية مستفيدًا من الحروب والفساد السياسي، ومديرًا لشبكات دعارة وكازينوهات وفنادق وعقارات وعمليات تبييض أموال في لبنان وقبرص ودبي ودمشق وحتى في أعالي البحار، حيث سُفنه العجائبيّة التي تُهدي الزبائن مُتعًا خرافية شاذة وانحرافاتٍ جنسية جامحة تفعلها شخصياتٍ متقنّعة بالوجاهة والرصانة والألقاب الدبلوماسية والاقتصادية.

لكن أن يجعلك الراوي تشعر كأنك بطل الرواية أو أحد شخوصها، فهو نجاحٌ مميز أو ميزةٌ نادرة. رغم ما يمكن أن يقال هنا عن “تقييمٍ جندري” للمسألة إن صحّت الفكرة. بمعنى إن البطل هنا هو ذكر، وبالتالي علينا أن نسألَ كيف ستشعر القارئاتُ وهنّ يطّلعنَ على رواية مليئة بروائح الذكورة وصفاتها، وقبح بعضها، وفساد مناصب بعضها الآخر؟

براعةٌ في الحبك والسرد والسبك والإفاضة دون إملالٍ. تقصٍّ دقيق عن مرحلة الثمانينيات بين سورية ولبنان، وصولاً إلى الزمن الحالي سياسيًا واجتماعيًا بما جعله يُضمّن تفاصيل خطِرة داخل نسيج الرواية تبدو ضرورية وليست نافلة أو مستجلبة أو دخيلة على الحكاية الأساس. مع استمرار روح الدعابة بشكل لطيف جعل المرارة المخفية في الحكاية تصبح مقبولة ومدعاة تأمّل ودهشةٍ بدلاً من النفور والتقزّز من شخصياتٍ أبسط ما تقوم به هو أن تبيع جسدها!

للحظة تنسى أنك تقرأ رواية، وتظنّ أنك عثرتَ على وثائق سرية مهربة أو تم نشرها بعد سنين طويلة كانت مخبوءة في صندوقها الأسود لولا تلك اللمحات من الجمل الروائية التي تحمل استعاراتٍ معرفيةً ورمزيةً وجماليةً تُكثّف لنا ببضع كلماتٍ مذهّبة بماء بصيرة الراوي وخفة دمه.

أخطر ما في الرواية هو أن الراوي بدا كمن يمنح “صكَّ غفران” لـ”مايك الشرقي”، كما لو أنه يريدنا – من حيث لا يشعر أو ربما بدرايةٍ شديدةٍ- أن نتعاطفَ معه بسبب ما عاناه في طفولته المبكرة، وأنْ نسامحه على أفعاله المنسجمة مع شهواته وتطلعاته لمجرد أن قدَره وضعه في “مستنقع الدعارة والصفقات المشبوهة.” بمعنى كما لو أنّ الراوي تورّط عاطفيًا في محبّة ذاك الـ”مايك الشرقي” وما عاد قادرًا على الخروج من الافتتان به. وبمعنى آخر أيضًا: تكاد الرواية تنحازُ للذئب وتعجلنا نعتقد أن الخرافَ هي التي لم تعرف –مِن شدة بلاهتها- أن تكون ذئابًا أو رفيقةً للذئب أو حتى ثعالبَ. فالحكاية تتعاطفُ ضمنيًّا مع بطلها لمجرد أنه كان طفلاً منبوذًا لأمٍّ غير مُخلصةٍ وأبٍ واشٍ.

هل كان الراوي يلعب دور محامي الشيطان إذاً من حيث لا يعلم؟ أم إنه افتُتِنَ بما “خلقَه” من شخصية روائية وبدل أن يكتب “تحقيقًا استقصائيًا” فاضحًا انتهى إلى كتابة روايته “المئذنة البيضاء؟” لأن البراعة التي امتلكها يعرب العيسى في سبر أغوار شخصية “مايك الشرقي” تجعلنا بلمسة العقل الظنّي نتساءل: هل الراوي نفسه هو إحدى الشخصيات التي “تلاعبَ” بها “مايك الشرقي” فأدخله في دهاليز عوالمه الداعرة وأغراه بكل ما لذّ وطاب ليجعله يكتب ما يشبه سيرةً ذاتيةً تُخلّده؟

كنّا، بحكم العادة ربما، ننحاز إلى الروايات المترجمة، ونمرّ دون انتباه حقيقي للروايات المكتوبة بأقلام سورية، لكننا هنا نقرأ روايةً في كلّ فصلٍ منها إمّا وردةً تلمسُ خدّنا أو شوكةً تحتَ جلد أفكارنا المهلهلة. أي إنها رواية لا يمكن تجاهلها أبداً لأنها ببساطة لم تتجاهلنا.

كأنما الرواية هي اختبارٌ نفسيٌّ لنا، حيثُ كل واحد فينا هو “غريب الحصُو” التوّاق “بنظرةِ محرومٍ أزليٍّ” وغريزة ثعلب مختبئ في خلاياه ليتحول إلى “مايك الشرقي”، وإنّ كل واحدةٍ مّنا هي “غصون” أو “رندة” أو حتى “فضة الجاروش”.. لكنْ لم يختبرنا القدرُ اللئيمُ بعد، ولم يضعنا تحت رحى الزمان والمكان اللذين وضعهم فيه الراوي!.

مِنَ المصادفات الطريفة أنني كنت أستمع إلى موسيقا “الفصول الأربعة” وكانت المقاطع وكلمات الرواية كما لو أنها نوتاتٌ سابحة في فضاء مخيلتي، تارةً تكرجُ صادحةً وتارةً تتهادى مثل “مايك الشرقي” وهو يتسكّعٍ ببطءِ المنتشي في الشام القديمة. ومراتٍ تملأ لحظاتُ الشرود ما بين السطور مثلما يفعل الصمتُ المهيبُ قبل رعود الشتاء/ هل أقول رعودُ الأفكار والحوارات التي صاغها عيسى على لسانِ شخصيات متعددة (مثقّفين، أكاديميين، ضبّاط، محامين، سكرتيرات، وحتى بعض رجال الدين) جذبتها رائحة المال فتورطت في تزيين القباحات وتلميع مشاريع مايك المشبوهة؟

وأما عن جماليات عناوين الفصول فكما لو أن غابرييل غارسيا ماركيز نفسه هو من كتبها!

يعرب العيسى روائيٌّ له أربع أيادٍ، وعشر عيون، وثلاثون أذنًا، وقلبٌ وسعَ المدى. فاقرؤوه.