1

سنكف… سنكف

(إلى رفقائي الذين يضيعون الساعات وهم يتجولون بين مواقع التواصل الاجتماعي للعثور على ثغرات إفتراضية لإثارة الخلاف… فيختلفون!!!)

 

كم هي جميلة سنوات الطفولة. رائعة في براءتها الفطرية الخالية من الحزن والهموم.

حياة الأطفال هي اللحظة الراهنة. لحظة السكينة والطمأنينة. لحظة الفرح الآتي مثل لعبة مُشتهاة. لحظات يعيشونها وكأنها البداية والنهاية في آن معاً. لحظات هي الزمن اللامتناهي.

الطفولة هي معبر كل واحد منا إلى عالم الكبار. دنيا معقدة على نقيض بساطة حياة الصغار. وفي رحلتنا السريعة هذه ننسج علاقات خاصة مع أترابنا في الحي وفي المدرسة. فتنشأ صداقات، بعضها يستمر ومعظمها ينتهي في سراديب النسيان أو يستقر في تلافيف الذاكرة.

وللأطفال مزاج يتقلب حسب الألعاب والشيطنات. إذا مالت الأمور لصالحنا فنحن ملائكة الوئام. لكننا نسارع إلى الشقاق عندما يميل الحظ نحو الآخرين: نتصايح بلعبة الكرة، هدف أو لا هدف. ننفعل بحدة إذا لم تعبر الكلة الزيح أكثر من كلل المنافسين. وفي مباراة “اللقيطة” تندلع مناقشات حامية، هل لمست غريمك أم أنه راوغك و”زمط”!

كل يوم ألف سبب وسبب للزعل المؤدي إلى القطيعة. نعلنها على رؤوس الإشهاد، والحاضر من الأطفال يعلم الغائب بهذا القرار المصيري: نعقد خنصر يدنا اليمنى بخنصر اليد اليمنى للغريم ونردد معاً:

سنكف سنكف عَ التابوت

يللي بيحكيني بيموت

عَ راس بيروت

بهذه الكلمات الصارمة نثبّت المقاطعة الحياتية التامة في ساعتها. ثم ينتهي نهار ويطل غروب، فنؤوب إلى بيوت حانية تحتضن ليلنا الطويل. أحلامنا تبشّرنا بغد مشرق جميل، غد يجمعنا مع أترابنا ويعيدنا إلى طفولة بريئة فطرية… ونلتقي مجدداً بعد أن نكون قد تحررنا من “السنكف” الذي تبخّر مع أحلامنا الغامضة. ونعود أصدقاء لعب وشيطنة، يتفقون ويختلفون ويكبرون!

وأسأل نفسي وقد بلغت من العمر عتياً: لماذا “يسنكف” الكبار أصدقاءهم ورفقاءهم وأحبابهم؟ ثم أضع السؤال أمامنا نحن الذين تجمعنا وحدة الروح والاتجاه، وأقسمنا على الوقوف معاً أو السقوط معاً… ألا يوجد في وجداننا ولو بقايا من طفولة عبرت بنا منغصات الحياة ذات يوم، فتجتاز بنا منغصات الحاضر؟

قد يخطئ الواحد منا، بل هو سيخطئ حكماً. وربما يسيء الآخرون فهم تصرف ما أو قول ما، فينفجر في نفوسنا زعل مقيت. وبلمح البصر الخاطف نتناسى عمراً كاملاً، ونجمّد أنفسنا بعناد مرير عند لحظة استثنائية لا معنى لها، سوى أنها تدغدغ شعور الأنا بأنها على صواب والآخر على خطأ.

وحتى لو كان هناك صواب وهناك خطأ بالفعل، فهل يعطينا ذلك الأمر الحق في تحويل الصواب والخطأ إلى مطلقين دائمين يرسمان لنا ما تبقى من سنوات العمر؟

إن حياتنا العادية مزدحمة بالأحداث يومياً، وكل حدث منها يحتوي احتمالات متضاربة. غير أن حياة القومي الاجتماعي مختلفة جذرياً لأنها صيرورة مناقبية تتطلع إلى الأسمى أبداً. وفي مسيرته هذه، سيكون من المتوقع أن يرتكب الرفيق أخطاء موصوفة. لكن عظمة عقيدتنا أنها زودتنا بالأدوات المناقبية والنظامية لمساعدتنا في تجاوز تلك الأخطاء مهما كانت.

لماذا إذن تفشّت في صفوفنا نزعة “السنكفة” المقيتة التي لا تتوقف عند حد، ولا تحمل أية قيمة؟ وهل نحن “نسنكف” تعويضاً عن الاحباط، فنرى الآخرين مضرب عصا سهل المنال؟

أنا أدرك أن الاختلاف بين الناس هو ظاهرة بشرية بدائية. وأتفهم أن يدافع كل واحد عن قناعاته بمواجهة الآخرين. وأتقبل أيضاً احتمال أن لا يتوصل شخصان مختلفان إلى نتيجة مقبولة من كليهما… لكن الزمن لن ينتظر أحداً.

الكرة الأرضية تواصل دورانها، فيكون ليل ويكون نهار.  بينما عيدان العمر تتقصف واحداً بعد آخر، فلا يبقى لنا إلا ذكريات باهتة تهدهدنا نحو نوم أخير تحت حفنة من تراب.

كلمة اعتذار في مكانها وزمانها تعتبر أرقى الممارسات الإنسانية… ولا تضاهيها في كبرها وعنفوانها سوى كلمة “شكراً” التي خلدها ليل الثامن من تموز.