تدمير الدورة الاقتصادية الاجتماعية واغتيال الوجدان!
زيد قطريب
في وقت سابق من هذا العام، أعلنت سفارة الولايات المتحدة الأميركية عبر صفحتها على الفيس بووك، عن تقديم ما يقارب من 3000 طن متري من بذور القمح عالية الجودة للمزارعين في شمال شرق سوريا، مع بدء موسم زراعة القمح. ليتبين لاحقًا أن هذه البذور مسمومة وتحتوي على آفة “النيماتودا” الفتّاكة التي ستتكفل بنشر هذا المرض البكتيري في كامل الجزيرة السورية، بشكل يصعب الخلاص منه مستقبلاً. وذلك بناء على التحاليل التي أجرتها وزارة الزراعة السورية في مختبراتها، واستنادًا إلى تصريح محافظ الحسكة غسان حليم خليل الذي قال: “إن التحاليل أثبتت أنّ البذور مُصابة بنيماتودا ثآليل القمح المترافق مع عفن السنابل البكتيري، وهو مدمّر للحقول الزراعية، إنّ هذه الكمية كافية لنشر الآفة في كل أراضي الجزيرة السورية.”
بالتوازي مع موضوع القمح، قامت تركيا باقتلاع أعدادٍ كبيرةٍ من أشجار الزيتون في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات التابعة لها، وحولت مناطق بأكملها إلى صحراء، وقد وصل عدد الأشجار المقطوعة والمحروقة في عفرين وحدها إلى 30000 ألف شجرة، وهي تشمل الزيتون والرمان والعنب والأشجار الحراجية.
على ضفة الصناعة، سرقت تركيا أكثر من 2000 معمل من مدينة الشيخ نجار الصناعية ومنطقة الليرمون بحلب، حيث تم تفكيكها ونقلها إلى الحدود تحت إشراف المخابرات التركية “MIT”، وهذا الأمر تم فضحه في الصحافة التركية نفسها، على يد الصحفي “سردار أكينان” و”موسى أوزأرغورل” الذي نشر مقالاً في موقع “غازيتي دولافار” بعنوان “نهب سوريا” اتهم فيه أردوغان “بغض النظر” وتسهيل عمل السارقين الذين أدخلوا المعامل إلى الأراضي التركية بعد أن تم تفكيكها ونقلها من الشيخ نجار والليرمون بحلب.
ثلاث عيّنات تشمل الجانب الزراعي والصناعي، سنستند إليهم للحديث عما نسميه هنا بتفكيك الدورة الاجتماعية الاقتصادية في الشام “الكيان”، بعد أن تم تفكيكها في سوريا “الأمة” منذ سايكس بيكو. فالحرب اليوم تأخذ منحى آخر مختلفًا عن العادة، بعدما أيقن الأعداء أن الوجدان القومي لم يمت كما يجب، حتى وإن كان يتمدّد اليوم تحت “المنفسة” أو في غرفة الإنعاش. فالمطلوب ضمن الحرب الاستراتيجية التي تشنها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وبقية المنظومة التي تتحالف معهما سواء بالغايات والمصبات النهائية أم بالأحلاف السياسية المعلنة، هو تفكيك الدورة الاجتماعية الاقتصادية لأنها تمدّ هذا الوجدان بأسباب الحياة.
لقد نجحوا في تفكيك بعض الكيانات السورية اجتماعيًا، لكنهم يعرفون أن بقاء الدورة الاقتصادية الاجتماعية فعالة ولو في حدها الأدنى، سيتكفل بإعادة الحيوية إلى الوجدان القومي في وقتٍ ما، لذلك انتقلت الحرب اليوم استراتيجيًا إلى محاولة نسف ثقافة الإنتاج في الأمة، بما تتضمنه هذه الثقافة من مفاهيم وعلاقات اجتماعية تذيب الأمراض وتنتصر على التفكك لصالح الوحدة.
الدورة الاقتصادية الاجتماعية، هي التي تنشىء الأمة، وهي من يعطيها شخصيتها عبر التفاعل العمودي الأفقي بين الإنسان والإنسان، والإنسان والأرض. هذه المعادلة الرياضية لابد من ضربها حتى يتم اغتيال الوجدان القومي الحيّ بشكل كامل مع مرور الزمن. لم يكن عبثًا عندما تحدثت “الفينيق” في أحد مقالاتها عن خطط “تفريغ الهلال الخصيب من السكان”، فذلك لن يتم إلا بتعميم القحط وفصم علاقات الإنتاج وإلغاء الإنتاج نفسه. إنها خطة تهدف إلى خربطة الخوارزمية الطبيعية الصحية لوجود الأمة وسلامة استمرارها، كبديل عن الحرب العسكرية والاحتلال المباشر الذي أثبت فشله وكبرت تكلفته. أما من يتبقى من الشعب في هذه الأرض، فيتم التعامل معه كخزان بشري وأيدٍ عاملة قد يحتاجونها في الأعمال المختلفة أو في التشغيل كمرتزقة في الحروب التي ستنشب في أي مكان بالعالم.
يحق للمتابع أن يضع فرضية تقول إن الجانب المعادي للأمة السورية، قرأ جيدًا أفكار سعاده، ووضع خططه الاستراتيجية المناهضة بناءً عليها. واستنادًا إلى ذلك تجري اليوم تلك الحرب الضروس ضد كل مفاهيم الإنتاج في الأمة، ومن ضمن ذلك تعميم الفشل والإفشال على الحركة التي أنشأها سعاده بحيث تبقى محصورة في النظريات والكتب من دون أي أثر انتاجي حقيقي في الاقتصاد والثقافة والسياسة وغير ذلك. وجود الإنتاج، واشتراك الجميع في إنجازه وقطف ثماره تبعًا لحجم الجهد المبذول، هو دليل التوازن الصحي في الأمة وفي الدولة القومية. يقول سعاده:
“تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج هو الطريقة الوحيدة لإيجاد التوازن الصحي بين توزيع العمل وتوزيع الثروة. كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجًا بطريقة من الطرق.”
بهذا المعنى، يمكن القول إن نسف مطبخ الدورة الاقتصادية الاجتماعية، يعني إلغاء الإنتاج، ومبيت الأمة على لحم بطنها كما يقال في المثل الشعبي.
في القرى السورية النائية، ظل المزارعون، تاريخيًا، قادرين على تحقيق أسباب العيش استنادًا إلى معرفتهم بأساليب الإنتاج عبر التعامل مع الأرض، لذلك فشل برنامج التجويع وتعميم المجاعة منذ سفر برلك حتى اليوم. فالفلاح السوري يملك ميزة التحول إلى الاكتفاء الذاتي إذا ما اشتدت الظروف، ولديه قائمة طويلة من الأعشاب غير الواردة في قاموس الطبيعة الأمريكي، يمكنه طهيها وتحويلها إلى مؤونة في الشتاء وأيام الشدة. هذا ما يريدون اغتياله بالضبط، إنه الإنتاج الذي تنشأ على هوامشه شبكة علاقات ومجموعة أفكار تؤدي في النهاية إلى استيقاظ الوجدان. إنها الدورة الاجتماعية الاقتصادية التي يريدون دفنها بشكل نهائي.
اليوم، لا يمكن الردّ على الحرب المعلنة ضد الدورة الاقتصادية الاجتماعية إلا بالإنتاج وحماية أسباب وجوده. هم يريدون أن نواجه العالم بثيابنا الداخلية، ونحن لابد أن نربي دودة القزّ ونعيد مجد النسيج السوري وتنجيد الصوف وصناعة “البِسْط” من الخيطان التي نصنعها بإيمانٍ على مهل. هم يريدون أن يموت الوجدان الحيّ، ونحن لا يمكن أن نحميه إلا بالإنتاج.
خلال السنوات السابقة، كنا ننتج الخضار ونكتب الشعر. لقد أتينا بعشراتٍ من صناديق الفواكه الفارغة المصنوعة من “الستيروبور”، فملأناها بالتراب ثم زرعنا شتلاتنا على السطوح والبرندات. كانت حباتُ الفريز الحمراء المتدلية فوق حواف العلب البيضاء، تقول إن هذه الأمة لا يمكن أن تموت بحصارٍ أو حرب، مادام أبناؤها يتقنون عملية الإنتاج، ويزرعون الأمل في المزهريات ثم يسقونه كي يكبر. هم يقطعون أشجارنا المثمرة، ونحن نتحولُ إلى غابة. هكذا يبدو “المنتجون فكرًا وغلالاً وصناعةً” هم الحل.