1

بين الكبتاغون والكيماوي، ماذا يحضّر للشام؟

الفينيق

تعود القضية إلى شهور خلت، بدأ فيها تسويق مصطلح “دولة المخدرات” عند الإشارة إلى الدولة السورية في أكثر من منبر غربي وإسرائيلي، حيث تشير الترجمات المتسارعة لهذه التقارير وأسلوب نشرها التتابعي بين المنابر العربية والغربية، إلى آلية منظمة تدير هذه العملية الدعائية وتبهّرها بشكل لافت للنظر. ففي أيار الماضي نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية تقريرًا تتهم سوريا فيه بتحولها إلى “المركز العالمي للكبتاغون”، وقد ترجمته قناة الحرة الأميركية على الفور إلى العربية ثم نشرته، لتتناقله المواقع العربية على الفور مثل “الجزيرة” ثم تتلقفه المواقع المعارضة مثل “تلفزيون سوريا” وغيره، من دون إجراء تعديلات تذكر على الأقل لإبراز خصوصية كل محطة، ومن دون توفر أدلة وإثباتات مرفقة تعطي هذه التقارير مصداقيتها المهنية.

هكذا كانت تهدأ الأمور قليلاً في هذا الاتجاه، ثم تعود إحدى الصحف إلى تكرار القضية في نوعٍ من الإلحاح الغريب لإثارة هذه القضية، ففي تموز من هذا العام عاد موقع إيكونوميس (The Economist) البريطاني لينشر تقريرًا يقول فيه إن سوريا تحولت إلى “دولة مخدرات”. وليتكرر السيناريو نفسه في تسويق هذا التقرير ونشره بسرعة بين المواقع الغربية والعربية. وكانت مجلة “نيويورك تايمز” آخر من قام بمهمته بالدعاية لهذه القضية عندما نشرت هذا الشهر تقريرًا بعنوان “ازدهار امبراطورية المخدرات على أنقاض سوريا“، الذي حظي بالترويج والنشر في المواقع نفسها التي قامت بذات المهمة في التقارير السابقة!

 

المدقق في هذه التقارير، يكتشف على الفور غياب العامل المهني الذي يتطلبه العمل الإعلامي أثناء إعداد هذا النوع من التقارير التي تشترط وجود أدلة وإثباتات تُخرجها من دائرة الاتهامات. فالمعلومات غير مرفقة بالصور أو الشهادات والوثائق. وهي كلام عمومي يمكن أن يُقال عن أي دولة مع تغيير الاسم فقط!

ما يدفعنا إلى التوقف عند تسويق مصطلح “دولة المخدرات” بشكل مكثف في الآونة الأخيرة، هو ما خبرناه واختبرناه في السياسة الأميركية والغربية التي مورست ضد العراق وأفغانستان وغيرها من البلدان التي تم الاعتداء عليها بذريعةٍ ما. حيث يبدأ التمهيد الإعلامي بتعبيد الطريق أمام إجراءٍ ما يُعدّ في الأروقة، كي تبدأ المكنات الأخرى عملها في المرحلة اللاحقة، بعد أن تتم تهيئة الرأي العام أو بالأحرى تضليل الرأي العام أو صناعته باتجاه أحاديّ معين، حتى يتقبل الإجراءات المقبلة ويعتبرها تدابير ضرورية ضد “التجاوزات” التي صورتها وسائل الإعلام.

في موقع وزارة الداخلية السورية، هناك تقارير مفصلة عن موضوع المخدرات وضبط المروجين والمتعاطين، وهي مسألة آلية تقوم بها أية وزارة في العالم، لكن هذه التقارير المرفقة بشهادات وصور ولقاءات مع المقبوض عليهم، غابت تمامًا عن التقارير التي تنشر في الصحافة الغربية التي حاولت أن تُظهر الدولة السورية كمصنّعة ومصدّرة للمخدرات، وقد استندت تلك التقارير إلى شحنات غير موثقة تم ضبطها في سفينة متجهة إلى إيطاليا أو عبر سيارات تنقل البضاعة إلى الخليج. حتى وإن صح هذا الأمر، فهو لا يدين الدولة السورية، إذ إنه يعتبر من المواضيع التي تقضّ مضجع العالم وتعاني منه أكثر الدول تطورًا نظرًا لارتباطه بشبكات كبيرة تحاول جميع الدول مكافحتها وكشف أساليبها في التهريب وتسويق المواد المخدرة.

وقبل ان تنتهي مفاعيل روايات الكبتاغون تطل علينا منذ أيام، صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية بمقال طويل عن صناعة الإسلحة الكيماوية في الشام، تبدأ فيه بالاستشهاد بمقال لصحيفة الواشنطن بوست تروي فيه أن إسرائيل هاجمت سنة 2018 مصنعين للأسلحة الكيماوية في سوريا، وأن هذا الهجوم كان لمنع دمشق من معاودة تصنيع هذا النوع من الأسلحة!

القضية هنا سياسية بامتياز. فكما تفعل الصحافة الغربية في موضوع الترويج لتصنيع الكبتاغون أو لاستخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، تفعل اليوم الأمر نفسه مع الملف النووي الإيراني الذي تحاول إسرائيل إفشال مفاوضاته والترويج دائمًا للحرب كخيار وحيد.

تسمّي الدكتورة الراحلة حياة الحويك عطية في محاضرة لها هذه الحالة بتشكيل “الجدل العام”. ورغم أنها تشير إلى الجدل الفكري، إلا أن الكلام يصدق هنا على سعي السياسات الغربية إلى دفع قضيةٍ ما إلى وسائل الإعلام من أجل إحداث جدل عام حولها، يمهد لإحداث رأي عام يطالب بالمسارعة في إيجاد حل لهذا الجدل بعد أن يقوم الإعلام بمهماته على أكمل وجه في تصوير مدى خطورة هذه القضية إذا ما تُركت تسير من دون تدخل! لقد رأينا كيف كانت الدوائر الأممية العليا في مجلس الأمن تتعامل بسذاجة وهي تشاهد صور وزير خارجية أميركا كولن باول التي عرضها في الاجتماع وسمّاه منشآت لأسلحة دمار شامل في العراق، وكيف تم تلقف الإعلام الغربي هذه الصور والاتهامات كأنها حقائق مطلقة، ثم انكشف الأمر بعد سنوات بأنه مجرد صور فضائية لأماكن ليست في العراق ولا يعرف أحد إن كانت لمبانٍ سكنية أو منشآت عادية لا علاقة لها بأسلحة دمار شامل كما زعم باول!

 

تمتلىء تقارير الصحافة الغربية التي أشرنا إليها، بالحديث عن معامل لتصنيع الكبتاغون في سوريا، لكن من دون تحديد أماكنها، فهي تكتفي بالقول إنها موزعة في الأرياف والمدن وتقع تحت سيطرة الفرقة الرابعة! هذا الكلام الملقى على عواهنه، يمكن أن يقال عن كولومبيا مثلاً، مادامت الأمور لا تحتاج تدقيقًا ويمكن أن ينشرها الإعلام بلا مستندات أو تدقيق. كأن سذاجة كولن باول وتعامله باستخفاف مع الحاضرين في مجلس الأمن ومع الرأي العام، انتقل بسلاسة وبساطة إلى ما يفعله الإعلام الغربي اليوم في تروجيه لمصطلح “دولة المخدرات السورية”، كأنه يفترض أننا لم نتعلم من الدرس ولم نقرأ التاريخ بشكل كافٍ!

المفارقة في هذا النوع من الحملات الدعائية، أن المنبر الذي يبدأ بنشر التقرير، يتحول إلى مرجع بالنسبة للمستنسخين الآخرين الذين يذكرونه في كل فقرة كي يوحوا للقارىء أن لديهم مستندات ومرجعيات. في هذا المشهد، لا تبدو دمشق غافلة عن هذا النوع من الحملات الممهدة لأعمال عدائية ما قد تكون في الطريق. ولا يبدو ذلك يقضُّ مضجع بلدٍ يتعرض للقصف بشكل دائم من قبل الأميركيين والإسرائيليين وينتهكه الأتراك والأعداء المستجلبون من كل حدب وصوب. فهل تستعد دمشق التي أثخنتها الحرب لهذه الاحتمالات؟