1

بيروت واسطورة “الأم الحنون”

بعد الانفجار الهائل الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 200 شخص وسقوط نحو 7 آلاف جريح تقريبًا، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة مسرح الدمار “لتقديم دعمه للشعب اللبناني”. تلقى ماكرون ترحيبًا كبيرًا خلال جولته على صدى اصواتVive la France  وهي تتردد عبر شوارع منطقة الجميزة المدمّرة وغيرها من الأحياء المجاورة. صفق الناس له عدة مرات، والتقطوا صور سيلفي معه، وبدأت إحدى النساء في البكاء وهي تتحدث إليه، فقام بمواساتها.

 حتى هذه اللحظة، كان فعل ورد فعل الناس في محيط التفجير الهائل متواضعاً إلى حد كبير. ظهر ماكرون كملاك مرسل وسط ارتباك عارم وحالة من الغموض والبلبلة واستمع الى معاناة الناس وشكاواهم المحقة. ولكن عندما علت الصرخات هنا وهناك تدعو فرنسا “الأم الحنون” وتطالب بإعادة الانتداب الفرنسي على لبنان، بدا واضحاً أن اللبنانيين، أو على الأقل بعضهم، قد فقدوا صوابهم واختلط عليهم الامر.

نحن لا نرى أن فرنسا كانت في أي وقت مضى”أما حنونا”. ذلك أن الأم الحنون تستقبل أبناءها بالحب والمودة، تراقبهم وترعاهم باستمرار خلال حياتهم، تهدئهم وتواسيهم في الأوقات الصعبة من حياتهم، ولا تتخلى عنهم في الظروف العصيبة. والأم الحنون لا تقدم مصالح أبنائها على نفسها فحسب، بل توجه إصبع تحذير لأولئك الذين يقتربون منهم أو يهددون مصالحهم. والأهم من كل ذلك، انها لا تضع مصلحة الآخرين قبل مصلحة أبنائها ورعاياها. هذه هي الطريقة التي يتوقع أن تتصرف بها “الأم الحنون”.

هل تنطبق هذه المواصفات على فرنسا؟ هل التصرفات والسياسات الفرنسية على مدى السنوات ال 150 الماضية أو نحو ذلك تدل على أنها كانت الأم الحنون للبنانيين؟ ان الأدلة المتوفرة لا تدعم هذا الادعاء لا من الناحية التاريخية ولا من الناحية العملية راهناً.

 أولا، لم يكن تدخل فرنسا في جبل لبنان في أعقاب مذابح عام 1860، عندما ظهرت أسطورة “الأم الحنون” بقوة متجددة، عملاً خيريا او “حنونا” من اجل انقاذ المسيحيين كما يُدّعى، بل كان مصلحة ذاتية ينبغي رؤيتها وتفسيرها من خلال السياق الإمبراطوري العام والتنافس في ذلك الوقت بين فرنسا وبريطانيا العظمى على منطقة شرق المتوسط. حتى عندما حاولوا أن يقتطعوا جبل لبنان وسكانه من الإمبراطورية العثمانية، والتعامل معه على أنه جزيرة حضارية وسط بحر من الهمجية، نظر الفرنسيون الى الجبل ضمن مجموعة أوسع من الأولويات، ولدت من حرصهم على تعزيز مكانة فرنسا في البحر المتوسط ​​وترسيخ سيطرتها على البؤر الاستعمارية. لم تكن ” قضية جبل لبنان”، بالنسبة للمفكرين السياسيين الفرنسيين، قضية قائمة بحد ذاتها. ولم يكن الأمر يتعلق في المقام الأول بالحفاظ على صورة “الأم الحنون”. بل كانت أعينهم على البحر الأبيض المتوسط ​​- على تأمين السيادة الفرنسية على أمواجه وحول شواطئه، وعلى منع بريطانيا من فرض سيطرتها عليه. في هذا السياق، لعب جبل لبنان وظيفة مهمة في الحسابات الاستراتيجية الفرنسية بعيدا عن وجود أي “حنيّة” فرنسية تجاه سكانه المسيحيين. فلو كانت فرنسا “أماً حنوناً”، كما يدعي البعض، لما تغيبت عن “مسيحيي المشرق” لقرون قبل اندفاعها الاستعماري المتأخر نحو المتوسط (وخصيصا جبل لبنان) في القرن التاسع عشر.

 ثانيا، ان مؤيدي نظرية “الأم الحنون” في لبنان يتغاضون عن حقيقة أن فرنسا في البداية عرضت نفسها على أنها “الأم الحنون” لكل سورية وليس فقط لجبل لبنان. من هذا المنطلق، فإن تقسيمها لسورية وإنشاء عدة دول – كيانات في حلب وجبال العلويين والدروز، وإنشاء كيان لبنان الكبير في عام 1920 باعتباره ” ملجأ للمسيحيين”، يضع مسألة أسطورة “الأم الحنون” موضع التساؤل. إن هذا التقسيم يتناقض بحد ذاته مع المعنى الجوهري لـمبدأ “الحنية” لأن الأم الحنون تفعل عكس ما قامت به فرنسا، وتسعى إلى الحفاظ على سلامة ووحدة الأرض التي تديرها أو تسيطر عليها بدلا من تقسيمها. إضافة إلى ذلك، فإن الطريقة التي انتهجتها فرنسا في خلق “لبنان الكبير” تشير إلى أن النفعية السياسية كانت الدافع الأساس بدلا من الرغبة في إنشاء ملاذ للمسيحيين. يتجلى ذلك في إضعاف الحركة الوطنية في دمشق عن طريق حرمانها من جزء كبير من السكان المحمديين وضمان بقاء الموارنة معتمدين عليها من خلال إلحاق هذا القطاع بالدولة اللبنانية المبتكرة.

ثالثاً، ان لقب “الأم الحنون” يعطي فرنسا فضلا أكثر مما تستحق، خصوصا عند الأخذ بعين الاعتبار السجل الفرنسي الفظيع في الجزائر وفي فلسطين.

إن العديد من اللبنانيين المؤيدين لأسطورة “الأم الحنون” لا يدركون الحقائق التالية، وان ادركوها فهم يتغاضون عنها: إن فرنسا حلت في المرتبة الثانية بعد بريطانيا في تأييد الحركة الصهيونية عام 1917، والتي أشار إليها ليونارد شتاين في كتابه عن وعد بلفور بـ “عام القرار”؛ إن فرنسا كانت مطّلعة على وعد بلفور قبل صدوره ووضعت كل ثقلها الدبلوماسي لإنجازه كسائر الدول الغربية الأخرى، بما في ذلك بريطانيا؛ إن فرنسا لم تتراجع قط في دعمها للحركة الصهيونية حتى عندما تأثرت مصالح لبنان بشكل مباشر؛ إن فرنسا كانت إحدى الموردين الرئيسيين للأسلحة لـ “الإسرائيليين” قبل وبعد إنشاء الدولة اليهودية؛ إن فرنسا كانت الدولة التي زودت “إسرائيل” بالمواد الخام والتكنولوجيا لإنشاء وتطوير قطاعها النووي على أعتاب لبنان؛ و إن فرنسا كانت وما تزال من أهم داعمي “إسرائيل” في الأمم المتحدة حتى ولو كان ذلك على حساب لبنان. لقد رعا الفرنسيون ولا يزالون يرعون رفاهية الدولة الصهيونية أكثر بكثير مما فعلوا في أي وقت مضى مع لبنان، فأين هي “الأم الحنون” في كل ذلك؟

رابعا، بعد الاستقلال في عام 1943 أبدت فرنسا اهتماما تراجعيا بلبنان ولم تتدخل لمساعدته إلا عندما تطلبت مصالحها ومصالح محمياتها ذلك. ماذا فعلت فرنسا للبنان في الأزمات الاقتصادية أو السياسية العميقة التي تعرض لها؟ لقد وقفت موقف المتفرج. ماذا فعلت فرنسا للبنان عندما تعرضت البلاد للغزو الإسرائيلي عام 1978 و1982؟ التشدق بالكلام هو كل ما قدمته وكل ما كانت على استعداد لتقديمه. ما الذي فعلته فرنسا لتحرير جنوب لبنان من احتلال إسرائيلي دام قرابة 20 عامًا؟ لا شيء أكثر من الدعم الكلامي لسلامة أراضيه. ومؤخراً، ما الذي فعلته فرنسا لمساعدة الدولة اللبنانية وهي تنزلق إلى كارثتها الاقتصادية والمالية الراهنة؟ لا شيء على الاطلاق. مرة أخرى نتساءل، أين هي “الأم الحنون” في كل هذا؟

أخيرا وليس آخرا، إن “الأم الحنون” التي يتوهم بعض اللبنانيين المخدوعين أنها فرنسا، هي نفسها “الأم الحنون” المسؤولة عن مصائب لبنان منذ إنشائها له دولة في عام 1920. ألم تكن فرنسا هي التي أججت نيران الطائفية من أجل الحفاظ على سيطرتها على البلد؟ ألم تكن فرنسا هي التي احتضنت السياسيين التقليديين من المدرسة السياسية القديمة والقادة الدينيين من مختلف الطوائف وبذلك حرمت القوى التقدمية الصاعدة في المجتمع من فرصة القيادة؟ أليست فرنسا هي التي قامت بتأجيج وتسييس الانقسامات الطائفية من خلال ما يسمى بـ “مهمة التحضير” وحركة الجزويت “التبشيرية” التابعة لها؟ إن بذور المشقات السياسية والاجتماعية التي أصبحت عبئاً على لبنان وتجلت بكوارث اجتماعية وأزمات سياسية متكررة تم زرعها من قبل “الأم الحنون” خلال فترة حكمها الانتدابي. فقط أنصار “الأم الحنون” المخدوعون يتغاضون عن هذه الحقائق.

“الأم الحنون” هي أسطورة ليس لها أساس عقلاني ولا اساس تاريخي. إنه تعبير يحتوي على وابل من القدح والافتراء على كل من الطوائف غير المسيحية التي استبعدتها “الأم الحنون” منذ البداية، والمسيحيين غير الكاثوليكيين الذين لم يعتبروا فرنسا “أمهم الحنون” أو لم تعتبرهم فرنسا أبدًا من بين رعاياها.

إن وصف فرنسا بالأم الحنون هو وصف مهين لنا، فضلا عن أنه غير حقيقي على الإطلاق. إن “الأم الحنون” الوحيدة التي يحظى بها لبنان ويجب أن يتطلّع إليها دائماً هي الأمة التي اقتطع منها.

الوقت وحده هو الذي سيبرهن أن ماكرون لم يأت إلى لبنان بدافع طيبة “الأم الحنون” بل جاء لأن الفرنسيين أدركوا متأخرين هذه المرّة أن مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية في شرق البحر الأبيض المتوسط اصبحت على المحك وتتطلب أكثر من مجرد استجابة شفهية.