1

الهوية السورية غير معروضة للبيع في البازار السياسي – قيس جرجس

في ظل الظروف الراهنة، التي تشي عن تشظي اجتماعي هوياتي، وعن شلل ثقافي سياسي، وانهيار اقتصادي، وإفلاس حضاري بسيادة ثقافة العنف بكل أشكاله، في كل كيانات الهلال الخصيب، التي تتشابه وتتشابك وتتداخل أزماتها ومعاناتها إلى حد كبير فيما بينها، فهي تحضر وتفرض نفسها على أي قراءة لأي أزمة تحدث في أي كيان.

هذه المعاناة من غياب المقومات الأولى للحياة، من فقر وتشريد وانقسام وضياع وخوف وهجرة وحروب أهلية عبثية مدمرة، تعود لفشل ذريع في بناء دولة وطنية تنجز أهم وظائفها، وهي الحفاظ على حيوية المجتمع والحفاظ على وحدته.

تحافظ الدولة على “حيوية المجتمع” من خلال تأمين وحماية “حقوق الحرية” المدنية والسياسية لمواطنيها بسلوك مؤسساتها وفق الدستور والقانون المتضمن ذلك.

وتحافظ على “وحدة المجتمع” من خلال تأمين وحماية “حقوق المواطنة” لجميع أبنائها دون إقصاء، من خلال تأسيسها على الرابطة الاقتصادية الاجتماعية كرابطة أساسية في المجتمع تشرك جميع الأفراد في دورة إنتاج الحياة بغض النظر عن أصله وعرقه ولونه ولغته وحزبه.

وتحمي الدولة مؤسساتها وترعى مصالح المجتمع من خلال نظام ديمقراطي ينظّم العملية السياسية وفصل السلطات وتداولها بشكل سلمي تحت سقف الدستور الحافظ لحقوق المواطنين والمجتمع والدولة.

لقد كان الفشل ذريعا من قبل الأنظمة السياسية التي حكمت عقودا، في إنجاز ذلك أو السعي لذلك، من خلال سلوكها التسلطي الإقصائي في الحياة السياسية والمدنية، وفي صياغة دساتيرها.

لقد كانت أنظمة واحدية شمولية، عدا عن مصادرتها لحقوق الأفراد المدنية والسياسية وممارسة الاستبداد الإيديولوجي والسياسي والثقافي والاقتصادي، تبّنت عقيدة القومية العربية، كهوية في الدستور، يقوم معيارها الحقوقي على رابطة اللغة والدين والأصل، فأقصت جماعات تقع خارج تلك الروابط، وهذا ما أسس لسلوك انفصالي انعزالي عند هذه الجماعات، مقابل السلوك الاستبدادي الإقصائي عليها من قبل السلطات الحاكمة.

فكانت النتيجة مشهدا واضحا للعيان، نفير من مشاريع التقسيم الهوياتي على أساس الطوائف والإتنيات في كل كيان، وتبادل العنف والتهجير بينها مع إدارة حروبها من الخارج، وبين رهاب الأقليات وهوس الأكثريات تدور طاحون السياسة القادمة.

فالأزمة بامتياز أزمة هوية عدا عن كونها أزمة حريات.

الهوية السورية:

لقد كانت الهوية تعني سابقا في الفكر السياسي للأحزاب صراع خرائط جغرافية سياسية بين أمة إسلامية وأمة عربية وأمة سورية وأمة لبنانية “مسيحية” إلى حد ما.

ولم تُقرأ الهوية كمعيار حقوقي، قيمته في توحيد المتن الاجتماعي ومكوناته، والذي نجد أساسه في الرابطة الاقتصادية الاجتماعية الأساسية في الحياة، التي أنتجت الاشتراك في الحياة والدورة الاجتماعية الاقتصادية وبالتالي المتحدات من بلدات ومدن وأمم، إلا في فكر أنطون سعادة من خلال بحثه عن نشوء الأمم ونشوء الأمة السورية، في زمن أوروبي يغص بنظريات نشوء الأمة والقومية.

لقد اعتبر المجتمع ككل، الجماعة الأساسية، وما عداها جماعات ثانوية ضمن المجتمع، فليست الطائفة ولا الطبقة ولا الإتنية ولا العرق ولا العائلة ولا الحزب هي الأساس الاجتماعي للأمة، وهذا يعني أن الانتماء الأساسي للمجتمع، وفق الرابطة الاقتصادية الاجتماعية رابطة الاشتراك بالحياة وإنتاجها، وبالتوصيف الحقوقي السياسي تدعى رابطة المواطنة.

وعلى أساس ذلك، اعتبر أن المدى التفاعلي الاجتماعي للدورة الاقتصادية الاجتماعية، كان تاريخيا على مدى الهلال الخصيب أو ما يطلق عليه سوريا الطبيعية، والتي احتضنت أقوام وهجرات وأعراق ولغات كثيرة وأديان وانجبلت في بوتقتها، كما كل الأمم في العالم، لذا كانت قوميته اجتماعية، وليست لغوية أو دينية أو عرقية، وكانت القومية في نظره تعني ظهور الإرادة الشعبية في بحثها عن سيادتها ومصالحها.

فالهوية السورية، ليست انتقاما من العرب ونفياً للعروبة الحضارية كوعاء لغوي ثقافي على غرار الفرانكفونية أو تقارب مصلحي سياسي، وليست نفياً لدين، فالدين هوية مسكونية على مستوى الأرض، وكل من يصنع للدين هوية قومية، هو كمن يفصّل الله على قياس مصالحه وسلطته.

والهوية السورية، ليست هوية غياب، كما تم تصوريها على أنها تغني بأمجاد الماضي، بل هي قراءة شاملة لكل مراحل تاريخ الوجود البشري في الهلال الخصيب “البؤرة الحضارية الأولى في العالم” وليس اقتطاعا لمرحلة منه واجتزائه وبعثا لماض ما، بل قراءة بقصد التعرّف على ذاتنا الاجتماعية.

فهي هوية حضور أولا في مكان نشوئها باستعادة حيويتها الاجتماعية، وانفتاح على وحدات أكبر، لأنها هوية غير مغلقة وغير منتهية بل مفتوحة دائما على التشكّل، لأن أساسها الدورة الاقتصادية الاجتماعية التي تقوم على المصلحة والإرادة في بلوغ ما أمكن من ارتقاء بقيادة التطور العلمي والاقتصادي وتطور وسائل الاتصال والتواصل، ولقد عبّر سعادة عن ذلك بقوله “من يدري قد يصبح العالم أمة واحدة” واضعا حدا لكل الحتميات ومسقطا الهويات الموروثة المغلقة المنتهية.

ليست ترجمة لإيديولوجية سياسية، بل ترجمة لحقيقة اجتماعية إنسانية تحقيقا لمصلحة اجتماعية إنسانية بإرادة اجتماعية إنسانية.

فهي لا تقبل الاستبداد، ولا تسعى لبلوغ الوحدة عبر المشاريع الاستبدادية والتسلطية المملوكة لزعماء، التي أخذت شكل الفتوحات وكانت كارثية النتائج.

بل هي مشروع الإرادة الشعبية الحرة الواضعة سيادتها في دولة ديمقراطية، الساعية لتحقيق مصالحها في الارتقاء على طريق الانفتاح والتوحد في مداها الطبيعي الاجتماعي الحيوي أولا، ومن ثم على مستوى الإقليم والعالم ثانيا.

على غرار ما يحدث في أوروبا والعالم، التي انفتحت الأمم على بعضها بعد تحقيق الامتلاء الاجتماعي بقيادة الإرادة الشعبية الحرة في دول ديمقراطية، لتحقيق ما يسمى السيادة التساندية، تحقيقا لمصالح الشعوب وبإراداتها.

وهي تقبل في ظل التقسيم والواقع الراهن، أن تعطي معنى روحها ومعيارها الحقوقي العادل الموحد أساسا صالحا للهوية في كل دولة لكيان، لإنقاذه من مطبات التقسيم والاقتتال، ولو تحت مسميات وطنية مشتقة من أسماء الكيانات العراق وسوريا ولبنان، وهي ستقاوم حين يتم قمعها وقمع نزوعها للانفتاح والتوحد في مداها الاجتماعي الحيوي بمعية الإرادات الشعبية الباحثة عن مصالحها الكبرى.

هي هوية تاريخية حضاريةتنمو في حضن الأرض – البيئة وتزهر الإنسان -المجتمع على أرضية التجانس التنوعي وليس على أرضية التطابق الإيديولوجي واللغوي والديني الاستبدادي.

هي الذاكرة التي كُتبت بحبر المكان وقلم الإنسان

وهي الخيال التائق لجعل الأرض كلّها دفتر ذكريات.

هي بيت الشعب الموحّد المبدع التائق ليسكن العالم، كما سكنه يوما بالأبجدية والتشريع والفلسفة والشرائع السماوية النقية.

وهل حرام علينا أن نحلم ونعمل أن يكون لنا هوية حضارية كما كل الشعوب في العالم.