1

اللغة الرخوة!

يقول الشعار المكتوب على أبواب بعض المدارس: “لغتنا العربية هويتنا الحقيقية”! وذلك يبدو طبيعياً في أمةٍ انتقلت، قبل مئات السنين، من دائرة الفعل إلى القول وروي الكلام عن الأسلاف دون اجتهاداتٍ أو نقد، كأننا أصبحنا “كتيرين حكي” في جعجعةٍ لم تؤتِ طحينها لا في السياسة ولا الاقتصاد ولا الثقافة التي أصبحت شفهية تكتفي بحفظ إرشادات القدماء على أنها حقائق مطلقة غير قابلة للنقاش أو الإضافة أو التعديل!

 اللغة، بشكل ما، تواطأت مع الساسة في الخطابات وساعدتهم بالجمل الحماسية التي تُطرب لها الآذان أثناء الأداء عبر السجع والطباق والجناس.. كذلك فعل رجال الدين عندما استخدموا اللغة ذاتها في تسطيح الجماهير وجعلهم يبكون لأبسط التعابير الانفعالية التي لا تتضمن أية حقائق علمية تُذكر.. وكان دور “خاتمة الرسالات” مؤثراً في تأكيد “خاتمة اللغات” التي يُمنع تطويرها أو الاجتهاد فيها لأنها اكتسبت قدسيتها من قدسية النص الديني الذي اختارها كي تعبر عنه!

أقول لهم: يا أخي إن اللغة لا يمكن أن تكون هوية، لأن اللغات تتبدل وتتطور بعامل الزمن والتفاعل بين الأقوام والحضارات والغزوات عدا عن التطور في العلوم والتكنولوجيا. فكم من أمة واحدة تتحدث عدة لغات، وكم من أممٍ تتحدث لغة واحدة.. ثم كيف نفهم انتشار اللغة العربية عندما استفادت من العامل الديني على حساب الآرامية والسريانية؟ فهل هذا يعتبر انسلاخاً في الانتماء أم دخولاً في عصر جديد يمكن أن نضيف له من خصوصيتنا الشيء الكثير؟

بالفعل، قال سعاده “نحن حماة الضاد”، لكنه لم ينفِ أثر الدورة الاجتماعية الاقتصادية التي يمكن أن تغير اللغة وسواها مع الزمن بعامل التفاعل والتطور. فحماية الضّاد لا تعني تقديسها وتصنيمها كما أنها لا تلغي تطويرها استناداً إلى خصوصية الأمة وانطلاقاً من تاريخها اللغوي الثري.. وإذا ما أضفنا إلى ذلك موضوع التأثير التكنولوجي في اللغة العربية ومغادرة معظم الشعراء لأساليب الوزن الصحراوي في الشعر مثلاً ووجود ما يمكن تسميته باللغة الثالثة، يمكن أن نقول إن سعاده لا يمكن أن يقول بحماية اللغة من التطور لأن ذلك لا يمكن أن يوقفه أحد!

شخصياً، أعتقد أن نشوء قصيدة النثر  في سوريا وازدهارها فيها، يعتبر مقدمة لعودة الأوزان الشعرية السورية القديمة التي هي نتاج البيئة ومغادرة الأوزان الصحراوية بشكل نهائي، تلك العملية غير القصدية تتم بفعل البيئة والتفاعل الاجتماعي من دون توجيهات أيديولوجية لأن منطق التاريخ يقول ذلك..

اتصلت منذ سنوات بالشاعر أدونيس، وكنت قد بدأت بكتابة الشعر بالعربية مضافاً إليه عبارات بالآرامية وجدتُها أكثر جمالاً في اللفظ، وقلت له إنني أعتقد أن اللغة التي قادت التخلف فترات طويلة من الزمن لا يمكنها أن تقود خطاب التنوير بلا تغييرٍ يحصل فيها لأنها كانت شريكة فيما يجري على نحو ما.. فقال ومن سيقرأ إذا كتبت باللغات القديمة؟ إن العملية مضنية وصعبة وطريقها شاق جداً..

في كل الأحوال، دأبتُ على وضع شرحٍ للمفردات في آخر النصوص الشعرية للكلمات الآرامية المستخدمة ضمن النص، وكنت أقول إنه التجريب والتدريب على الاستفادة من كنوز لغاتنا الأمّ الموجودة حتى اليوم بكثافة في لهجاتنا المحلية وفي أسماء الأماكن وفي الطقوس وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية..

تنشأ اليوم اللغة الرخوة بين جيل الشباب، وهي دليلُ قلق ثقافي كبير ينذر بتحولات لغوية كبيرة في المستقبل، ذلك الجيل الذي اخترع مصطلحات مثل “شو مشان” و”حبّيت”، يؤكد قدوم تبدلات كبيرة في المستقبل اللغوي، وإذا لم يقم المختصون بدراسة هذا الملف بشكل علمي منزّه عن العامل الديني والسياسي، فسيذهب التغيير باتجاه التغريب واللغات الأجنبية، وبذلك يكون المدافعون عن اللغة العربية قد ارتكبوا خطأ فادحاً بمنع الاجتهاد من أجل تطويرها!

قبل آلاف السنين، قال شاعر سومري قديم: (ابحث عني إلى أن تجدني.. أنا في البرية وقد أنهيت اقتلاع الأشواك، والآن سأزرع كرمة عنب..) ..وإلى أن تنهي هذه الأمة اقتلاع الأشواك، فتجد نفسها.. سنردد مع ميلياغروس السوري:

(الأمّ تتسمّرُ الآن هامدةً.. غير مصدقةٍ في ذهول

كما الصنم المنقور في الحجارة!)

عرفتوا كيف؟