1

القومية والديموقراطية مبدآن متجانسان

هذه المناقشة هي بمناسبة عدد من الرسائل أرسلها الرفيق هاشم حسين إلى الكاتب على فايسبوك. وكانت الفينيق قد نشرت للكاتب في الاعداد 4 و5 و6 و7 و8 سنة 2018 سلسلة بحثية في القومية والديموقراطية وانبثاق السلطة في النظام القومي الاجتماعي الجديد. ثم عادت ونشرت له مقالة تحت عنوان “السلطة ومصدرها” في عددها رقم 38، نيسان 2020. تلكما السلسلة والمقالة وأفكارهما كانتا موضوع تعليقات عديدة يتناول الكاتب فيما يلي مناقشتها. إنه ليسعد الفينيق نشر كتابات الباحثين مباشرة شرط استيفائها لشروط النشر في المجلة.

كان الاختلاف في مقاربة هذا الموضوع يتمحور حول مصدر انبثاق السلطة في الدولة – الحزب، هل هو الشعب كله كما تقتضي الديمقراطية أم أن نخبة معينة منه فقط هي مصدر انبثاق السلطات، على أساس أن ديمقراطيتنا هي تعبيرية وليست تمثيلية؟ وهذه النقطة بالضبط دار حولها نقاش كثير وأسئلة كثيرة من مثل: هل الانتخابات العامة هي الطريقة الوحيدة لممارسة الديموقراطية أم أنه يمكن للشعب أن يمارس سيادته ودوره كمصدر للسلطات بطريقة أخرى غير الانتخابات العامة؟ ما معنى ديموقراطية تمثيلية وما معنى ديموقراطية تعبيرية وما هو الفرق الجوهري بينهما، وهل كل انتخابات عامة في كل المجتمعات وكل الحالات هي انتخابات تمثيلية حتماً، أم لا. ومتى تكون الانتخابات تمثيلية ومتى لا تكون، وكيف؟ هل الديموقراطية التعبيرية تمنع جميع أفراد الشعب من أن ينتخبوا السلطات التشريعية المركزية؟ (مناقشات الرفيق وسيم سالم، وغيره)

لكن الجديد اليوم هو ظهور الرفيق هشام حسين ووجهة نظره التي تقول إن نظام الحزب ليس ديمقراطياً أبداً، لا تمثيلياً ولا تعبيرياً، وأن الديمقراطية هي شيء قديم غير صالح ولا يتفق مع “النظام الجديد”. حتى أن الرفيق حسين يعتبر أخذنا بالديمقراطية أنه “خطأ قاتل من شأنه أن يحرف الفكر الجديد عن طريقه فيحوّل القومية الاجتماعية ذات المفهوم الجديد والنظرة الجديدة والنظام الجديد الى مفهوم ديمقراطي يضع الفكر الجديد في جرمية التقليد والاستنساخ الفكري البغيض…ألخ“. وهو يقول أيضاً “بسقوط الديمقراطية عند أنطون سعادة”.

وأكثر من ذلك، فردّاً على قولي بأن سعاده هو رائد الديمقراطية وأبوها وأمها يقول:

“لقد شعرت للوهلة الاولى من تعبيركم الوارد آنفا بأننا وقعنا في خديعة كبرى نصبها لنا أنطون سعادة, فكيف هو المنادى ب”النظام الجديد” ومفهومه للقومية الاجتماعية القائمة على عدم التقليد والمبنية على أساس الابتكار الاصلي فاذا به يطبّق مفهوم (الديمقراطية) علينا في حزبه فيخدعنا, ويخدعنا بقوة, ويخدع الامة بأنه قد نادى “بنظام جديد” وإذا به يُقلد كما قلّد الاخرين.. فوقع في البلبلة والفوضى, واستغل الشعب مدغدغا عواطفه كما استغله الاخرون ودغدغوا عواطفه, مستغفلاً عقله كما استغفله الاخرون”.

وبالإضافة لحجة عدم جواز تقليد القديم، لأن نظامنا جديد، وهي حجة قوية، يضيف حسين حجة أخرى هي:

هذا النظام الجديد لم يسمّه سعادة بالنظام الديمقراطي أو ما شابه… النظام والدستور والقوانين المرتبطة به لم تأت على ذكر لفظة ديمقراطية فيه كما يزبد (أو يريد) البعض معتمدين على أكذوبة الوكالة الفرنسية التي دست وحورت كلام سعاده الذي أوكل إلى عمدة الاذاعة لتكذيب ما جاء فيها… سعاده لم يأت على أي ذكر لفذلكة الديمقراطية وبرلمانيتها العبثية ونظامها الأكثري أو العددي الذي تغلب عليه الجهالة, والتي يتحكم بها فعلياً رؤوس الأموال…“. وأيضاً:

“في هذا المبحث سنبين الخطأ الذي وقعتم فيه لناحية إسقاط المفهوم الديموقراطي على سعاده لناحية إعطائه صفة الريادة فيه والتي تتعارض و المفهوم الجديد الذي وضعه سعاده ونحته ونحت فيه مفاهيمه وتعابيره وقواعده، ألا وهو المفهوم القومي الاجتماعي”.

أعتقد أني نقلت أعلاه ما يكفي من أفكار وحجج ونصوص من رسائل الرفيق حسين لي التي نشرها على صفحته الفايسبوكية، وهي نموذج عن محاورات وحجج الذين ينفون الديموقراطية ويسقطونها كلها من النظام القومي الاجتماعي، وصار بأمكاني الرد عليها وعليهم كما يلي:

لا
أعتقد إن عدم استعمال سعادة لكلمة أو للفظة الديمقراطية في الدستور والقوانين المرتبطة به، أو عدم إعطاء نظامه أسم النظام الديمقراطي يشكل حجة كافية. فالديمقراطية ليست إسماً للنظام القومي الاجتماعي الجديد بل هي صفة من صفاته وخاصّة من خصائصه. وليس ضرورياً وجود لفظة الديمقراطية في الدستور ومواده كي يكون نظامنا ديمقراطياً، كما أنه ليس من الضروري وجود لفظة حق وخير وجمال في الدستور لكي نعرف أن في نظامنا الجديد ومبادئنا وقضيتنا، الموجودة في الدستور، كل الحق والخير والجمال. رغم ذلك أجزم وأقول: بلى لقد أطلق سعادة واستعمل لفظة وإسم الديموقراطية بشكل عام والديمقراطية التعبيرية بشكل خاص عندما كان يصف ويشرح نظامه الجديد، وقال أن طريقته الجديدة أسمها “التعبير عن إرادة الشعب” بدلاً من تمثيل إرادة الشعب. لم أستند في ذلك الى التصريح المزور الذي نقلته الوكالة الفرنسية بل الى مصدر أكيد وصحيح من سعاده الذي قال في خطاب سانتياغو تاريخ 8-5-1940 كما يلي: “إن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس فتحولت الى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب أخذ يئن من شلل الاشكال التي اخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة، وصار ينتظر إنقلاباً جديداً. وهذا الإنقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة الى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة الذي هو شكل ظاهري جامد. فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها التعبير عن إرادة الشعب فهذه الفكرة الجديدة هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد. ثم عاد سعادة سنة 1947، أي بعد سبع سنوات، وقال: “وقد تحقق الزعيم عجزه (عجز جبران مسوح) عن إدراك النقاط الجوهرية في القضايا الاجتماعية السياسية الكبرى من عدة امتحانات: في سنة 1940 زار الزعيم مدينة سانتياغو لدعوة المواطنين الى النهضة القومية، وصحبه في هذه الرحلة جبران مسوح. فالقى الزعيم محاضرة اشتملت على نظرية من أروع النظريات الاجتماعية السياسية ويصح أن تسمّى
هذه
النظرية نظرية الديموقراطية التعبيرية، خلافاً للديموقراطية التمثيلية الشائعة في العالم، وكلف جبران مسوح تدوين ما سيقوله وتلخيص المحاضرة ففعل هذا كما أشار الزعيم. ولما عرض تلخيصه عليه وجد الزعيم أن مسوح أغفل بالكلية شأن النظرية الخطيرة التي أعلنها والتي هي أهم ما في تلك المحاضرة، لأنه لم يفقه لها معنى ولم يعرف لها قيمة” (نسر الزعامة ووحول توكومان-4). لكن كلام سعاده الصريح الفصيح يبدو أن الرفيق حسين لم يقبله بل أرهقه إرهاقاً، وقد كتب لي في إحدى رسائله عن الديمقراطية التعبيرية: ” هذا التعبير الذي يرهقنا به الكثيرون وهو الذي استخدمه سعاده بشكل عرضي وليس منهجاً أصلياً لعقيدته الجديدة ولنظامه الجديد وهذه التي يقع بها كثير من القوميين الاجتماعيين بأخطاء بحثية فادحة“.

هكذا يصطدم حسين مع سعاده، وهكذا يعتبر حسين، كما جبران مسوح، أن ما قال عنه سعادة أنه من أروع النظريات الاجتماعية السياسية وأنه إنقلاب جديد تجيء به الفلسفة السورية القومية الجديدة، ما هو إلّا تعبير عرضي وليس منهجاً أصلياً لعقيدته!!

لا يسعني هنا إلّا استحضار قول للرفيق حنا الشيتي قاله لي منذ حوالي خمس عشرة سنة، قال: فلا تحاولوا أن تساعدوه، وتصوبوا دقة عباراته، فتقولوا سعادة قصد كذا، وسعادة لم يقصد كذا، كلما تصادمت فكرتكم بفكرته، بل آمنوا بأنه دائماً على حق، وليكن هذا التصادم الفكري بينكم وبينه إنذاراً لكم بأنكم قد أخطأتم وحاولوا أن تكتشفوا الخطأ الكامن في فكرتكم أنتم”.

إنه لواضح جداً أن سعاده يرفض “الديموقراطية الحاضرة” التي استغنت بالشكل عن الأساس وتحولت الى نوع من الفوضى، ولا يرفض الأساس الديموقراطي الصحيح بل هو يدعو للعودة اليه (الإنقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة الى الأساس).
هذا هو جديد سعادة في موضوع الديمقراطية، وهذا هو نظامه الديمقراطي الجديد: التفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة إسمها التعبير عن إرادة الشعب، فهذه الفكرة الجديدة هي الإكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد.

أن كلام سعاده الحاسم القاطع هو سيد الكلام، ولم نعد بحاجة الى المزيد. لكن الموضوع يستحق إلقاء الضوء على مصادر أخرى لسعاده من كتابه العلمي نشوء الأمم ومن مقالاته ورسائله وخطبه، ففيها كلها تأكيد على أن سعاده هو بالفعل رائد الديمقراطية وهو أبوها وأمها.

أولاً _ من نشوء الأمم.

إن كون مبدأ القومية والديمقراطية هما مبدآن متجانسان ليس قولاً لي أنا، بل هو قول لسعاده قد أعلنه وأكده وشرحه في نشوء الامم، وتجده في الفصل السادس تحت العنوان الفرعي: الدولة الإقطاعية في الغرب والشرق. ولسعاده أيضاً شرح واضح جداً كيف أن القومية تقوم على المبدأ الديمقراطي. تجد ذلك في الفصل السادس تحت عنوان: الدولة الديموقراطية القومية. يقول مثلاً: “… لكن القومية لم تقف عند حد القضاء على سلطة الاقطاعيين… بل سارت نحو الهدف الذي يبرر وجودها وهو إقرار أن السيادة مستمدة من الشعب وأن الشعب لم يوجد للدولة بل الدولة للشعب. هذا هو المبدأ الديموقراطي الذي تقوم عليه القومية. فالدولة الديموقراطية هي دولة قومية حتماً.

فالديمقراطية كمبدأ هي أساس تقوم عليه القومية، ومبدأ الديمقراطية هو غير الأشكال الديموقراطية الفارغة والمضلِّلة المعتمدة في الغرب والتي فضحها سعاده ودعا الى تركها والعودة الى الأساس الديموقراطي الصحيح.

ثانياً – من المقالات.

بتاريخ 15-10-1937 كتب سعاده مقالة في جريدة النهضة تحت عنوان “مرشحو الديموقراطية” يقول فيها: أن الديمقراطية من حيث أنها تعني أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطة هي أساس ثابت لا يزعزعه شيء أما التلاعب بهذه اللفظة حتى تعني الفوضى والرياء والزلفى فأمر يعيب الامة”.

سعادة قال ذلك خلال الانتخابات النيابية في لبنان والشام، ليس رفضاً للديمقراطية بل دفاعاً عنها بوجه الذين يستعملون لفظتها ليخفوا نفعيتهم، فقال عنهم: “هؤلاء هم بعض مرشحي الديموقراطية للنيابة في لبنان، والبعض الآخر لا مذهب سياسياً أو إقتصادياً لهم ولكنهم يستعملون الديموقراطية رياء وزلفى ليصلوا الى غاياتهم، وهم النفعيون”.

أما بتاريخ 7-3-1937 فكتب سعادة مقالة بعنوان “النيابة والاستبداد” ليوضح معنى الحكم الفردي، أي الاستبداد أو الدكتاتورية، الذي كان هو يمارسه حسب الدستور. فكانت حجته هي أن إستبداده هو إستبداد ديموقراطي لأنه قائم على ثقة مطلقة من مجموع الحزب. يقول: “لا يجوز أن يقوم الحكم المطلق إلّا على أساس الثقة المطلقة. وهذه الثقة المطلقة هي ما نرى مثاله الأعلى في الحزب السوري القومي الذي تقوم زعامته على ثقة مطلقة من مجموع الحزب… فإن الثقة المطلقة هي أساس ديمقراطي… “

فالديمقراطية هي ما حرص عليه واستند إليه سعاده في حججه، أوَلم يقل في نشوء الأمم إن الديمقراطية هي المبدأ الذي تقوم عليه القومية؟

ثم أن سعاده يدعو شعبه للافتخار بالديمقراطية لأنها إنتاج سوري ويدعو رفقاءه لأن يعرفوا واجبهم في هذه القضية الخطيرة وينقذوا الديمقراطية من الهلاك الذي يدفعها إليه غيرهم. اقرأه يقول: “وباكراً أسس الفينيقيون الملكية الانتخابية وجعلوا الملك منتخباً لمدة الحياة فسبقوا كل الشعوب والدول التاريخية الى تأسيس الدولة الديموقراطية. وما الدولة الديموقراطية سوى دولة الشعب أو دولة الأمة. هي الدولة القومية المنبثقة من إرادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه.
(نشوء الأمم، الفصل السابع، الأثم الكنعاني)

ثالثاً- من الخطب.

“… ثم أخذ يسرد شيئاً من حضارة السوريين في الماضي والمبادئ الصالحة التي أخذها الناس عنهم فذكر نشوء الديمقراطية في سورية التي ظهرت لأول مرة في التاريخ البشري بواسطة إنتخاب الملوك في الدول السورية”. (الزعيم في سانتياغو، الاعمال الكاملة ج 4 آخر صفحة 38)

“أما الديموقراطية التي يفتخر بها العالم الآن فهي من صنع سوري أيضاً لأن أول فكرة ديمقراطية تعطي الشعب حقه في إبداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية. وبلا شك هي الغرسة الأولى في هذا الباب التي أعطت الثمر الكثير للعالم كله، ولا يزال البشر الى الآن يجاهدون في إيصال هذه الفكرة، حقوق الانسان، الى حد الكمال”. (نفس المصدر، صفحة 41)

“إن السوريين القوميين الاجتماعيين يجب أن يعرفوا واجبهم في هذه القضية الخطيرة، وأن العالم بأسره ينتظر منهم تفكيراً جديداً، ولا سيما من الوجهة الديموقراطية التي أصبحت الآن في حال مبهمة، فالسوري القومي يجب أن يعالجها من جديد ويدفعها الى العالم كاملة”. فالسوري المفكر يجب أن يهتم في إنقاذ الديمقراطية من الهلاك وذلك بأن يزيل ما دخل اليها من الفساد ويدخل إليها تفكيراً ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة فتصير صالحة لنفع الانسان وتكفل حقوق الانسان من كل مهاجمة وتعدّ. هذا هو الإصلاح الذي تتمخض به البشرية ولا بد أن يولد. فإذا جاء عن يد سورية تكون هذه البلاد العزيزة- بلادنا- ولدت الديموقراطية ثم أنقذتها من الهلاك: (نفس المصدر)

رابعاً – من الرسائل.

بتاريخ 28-8-1941 كتب سعادة رسالة الى منفذ عام سان باولو البرازيل وليم بحليس يقول فيها:

“وإذا كان دستور الحزب قد وصل، لأنه أرسِل، فيمكنك أن تطلع السيد المر على الدستور وليس على المراسيم الدستورية المدموجة فيه، فيرى أن امتياز الحكم الفردي في الدستور هو فقط لصاحب الرسالة ومؤسس القضية وليس نظاماً أساسياً دائماً. والإتجاه الديموقراطي في نظامه صريح لا يرفضه عقل صحيح”.

أن هذه الاقوال والنصوص الواضحة والمراجع من سعاده تثبت أن الديمقراطية هي في صميم النظام القومي الاجتماعي الجديد، إنها من صنع سوري والعالم أخذها عنّا وأفسدها، ونحن لا نقلِّد أحداً بل نستعيد ما ابتكرناه لنزيل ما دخل اليه من فساد ولننقذه من الهلاك.