1

القراءة “الذكية” !! “بكل إخلاص وعزيمة صادقة” – نجيب نصير

نجيب نصير

يمكننا اعتبار المصداقية بمثابة العمود الفقري للعمل العام بكافة تجلياته، من حيث أنها الممارسة الفعلية لمجريات أي تعاقد مهما بدا صغيراً أو كبيرا. فالمصداقية هي نتاج تسليف الثقة حتى ينقضي أجل التعاقد. من هنا تأتي أهميتها الفعلية في الحياة الواقعية، وعنها تصدر ممارسات تقنية مثل العدالة، والشفافية، والتكتيك، والثقة، والإجماع، وإلى ما هنالك من ممارسات ضمن ألإجتماع البشري المعاصر.

غالبا ما يتم  إستخدام مفردة “ألمصداقية” كإجراء لغوي في سياق الإنشاء الخطابي لتقديم العاملين في الشأن العام -عند الناطقين باللغات العربية-. وغالبا ما يكون استخدام هذه المفردة على سبيل امتداح هذا الخطاب وزيادة محموله الجمالوي بإيجابيات يتم استلافها من قاموس العهود والوعود بصفتها إستراتيجيات للعمل العام المتمثل بـ “مؤسسات” مُدارة  من شخصيات تكتنز في ذاتها “المصداقية” ومفاعيلها،كي توزعها لاحقاً على الموعودين المتعاهدين على المشاركة في دعم سيرورة هذا العمل “العام ” أو “ذاك”.

وهكذا تتوازع “المؤسسات” من دول وأحزاب وإعلام وجمعيات خيرية أهلية أو مدنية هذه المصداقية، لتجعل منها إما دليل على صوابية تسليف الثقة، أولزوم ما لا يلزم بذرائع الواقع، والظروف، وموازين القوى، والممنوع والمتاح، والسقوف العالية أو الواطئة، والتسابقات الانتخابية، والغزو الغربي، والإعتداءات الإقليمية والدولية الخ. كل ما تحت اليد من حجج منطقية أو فهلوانية يصبح متاحاً للإلتفاف على  ممارسة المصداقية، كعهد لا يخلو منه أي تعاقد، ولكنه مؤجل الإستحقاق الى ما بعد الفعل  في الحيز العام. ساعتها ..أي عند إحصاء النتائج، يكون من ضرب ضرب، ومن هرب هرب، وظهر الخراب و الفوضى، أو استتب الأمر لمحتكر الغلبة، المعاكس تماما لمبدأ العمل العام .

والمصداقية شأن خطير. فهي على الرغم من كونها إستحقاقاً مؤجلاً  يبيح التلاعب في مواعيد تنفيذ العهود، فإن أجل هذا الاستحقاق محدود. فنتائجه متعلقة دوما وبالضرورة بالنجاح أو الخراب العام، متمثلا إما بإحتدام تفاعل المتعاقدين في خدمة تعاقدهم، أو بتقاعسهم عن الخضوع لشروط تعاقدهم. وفي حال التقاعس يساهم الجميع في الخراب، فاعلين ومفعول فيهم، بحيث لا يطال هذا التقاعس المؤسسة الواحدة لوحدها، بل يتعدى الإمر الى الإطاحة بالعمل العام نفسه. فيبدو عديم الفائدة على الأقل، وربما ضار بالمتعاقدين على الأغلب، بسبب إنتقال الإستفادة من التعاقد أو المصلحة منه إلى أفراد معدودين بغض النظر عن موقهم على خريطة التفاعل، لتدفع الجماعة التي هي موضوع العمل العام الثمن من وجودها نفسه.

لا يمكن استنتاج المصداقية من استمرارية الأداء في الزمن، وما تظهره من صفات للعراقة والنجاح. ففقدانها هو نخر في الجسم التعاقدي كله، ليس بين طرفي التعاقد فقط، وإنما في المخزون الوجداني المعرفي عبر الزمن، أي في البنية الاجتماعية العابرة للزمن. إذ أن المصداقية تحمل في طياتها حمولات تربوية ثمينة من غير الممكن تزويرها أو الاستغناء عنها. ببساطة نقول، إن تزوير المصداقية أو الاستغناء عنها جالب للتخلف، وهذا جالب للضعف والهوان الذي لا يمكن تجاوزه في سيرورة الزمن التراكمية. من هنا نرى ان  المصداقية هي فعلا خط دفاع أول ومن ثم أخير عن معنى الوجود البشري المنظم.

يتم خرق المصداقية من قبل المؤتمنين على ممارستها، عبر إعادتهم قراءة منطوق التعاقد قراءات مناسباتية حينية، غالبا ماتشبه “سياسات حافة الهاوية” المعروفة جيدا في عالم البراغماتية. فنراها تضع المتعاقد أمام حل وحيد مبني على هذه القراءة، فإما الخراب أو إنفكاك العقد. وتقوم على تنفيذ هذه القراءة “نخبة” بيروقراطية فهلاوانية تلوي عنق البديهة، في تفسيرات إستثنائية وغريبة للقبول بهذه القراءة قبيل فرض العنف الجسدي، ليتحول الموضوع برمته  إما إلى إذلال، أو الى إذلال وإستباحة  معا في حال رفض هذه القراءة .

واليوم الذي هو نتائج ما سبق من أداءات، يمكننا رصد علاقة واقعية بين المصداقية وبين ما وصلت اليه التجمعات البشرية الناطقة باللغات “العربية”، وربما في إمكان الشخص العادي معايرتها، (طبعا مع وجود كم هائل من الإحصائيات المعيارية المحايدة أوالمنحازة )، حيث يمكنه إكتشاف عجزه وصغاره ( الصغار متعلق بالكرامة الإنسانية )، وإكتشاف صفرية مشاركته في صياغة وجوده عبر الفضاء العام. وهو أمر لا يتعلق بأي إنحياز، فالوجود المجتمعي هو وجود  إرادي حر، يتعلق تماما بالمكاسب، والتضحيات. بمعنى أنه يتعلق بالنجاح بما يتجاوز مرحلة التضحيات، وصولا الى مرحلة العمل والإنجاز.  وهذه هي المعضلة في العلاقة بين المصداقية، والإجبار على تصديق هذه المصداقية المحرّفة، لتبدو في حال تحققها في هذه الصورة، ليست متأخرة على أجل تنفيذ التعاقد فقط، بل هي شكل من أشكال الهزيمة حيث استثمر فيها ما يفوق كثيرا عن أرباحها الموعودة، والتي لا تكفي حكما وبالضرورة لسد الخسارة الناتجة عن التلاعب بالمصداقية كجزء أساسي ولا يتجزأ من أي تعاقد.

لا تأخذ مفردة ” المصداقية” أي معنىً لها من من مصدر “صدق” اللغوي القاموسي، بل من القاموس الاجتماعي السياسي الممارس في الواقع، المعني بالمبادرة والفعل وحصد النتائج. والنتائج هي المعيار الرئيسي والأساسي. فإذا كانت النتائج مخيبة أو كارثية، فمن المسؤول أولا؟ ومن يستطيع تعويض الخسارة في ظل إعتماد قراءات فهلوانية للعقد حيث لا محاسبة، ولا تداول للمسؤولية، ولا نقد ذاتي بالمعنى المعرفي. في هذا المناخ يمكن تحوير الهزائم الى إنتصارات، وإظهار معاناة الأعضاء المتعاقدين المتألمين وكأنها نضالات وصمودات وبطولات مشرفة، في حين أنهم “كالطير يضحك مذبوحا من الألم.”

في حال وجود المصداقية لا يتأخر ظهور النتائج الإيجابية للعمل العام ولا يحتاج الأمر الى عشريات أو قرون، ولا يحتاج المرء لعين خبيرة لملاحظة إنجازاتها، ولكي يتم الإيحاء بوجودها، يتم تقسيط ظهور بعض الإنجازات على فترة ممططة من الزمن حيث يتم الإحتفاء بكل أعطية كمكرمة إضافية ناتجة عن القراءة “الذكية إستثنائيا” لمنطوق التعاقد (وهنا لا بد لنا من الإشارة الى وسائل الإعلام/ن)، التي تدعو إلى تمديد هذا التعاقد (بعد التلويح بالعواقب) لا بل والإستزادة من هكذا نوع للقراءة، التي تتوقف معها اللحظة الاجتماعية كنهاية مطاف.

لا تحتمل المصداقية (وفقدانها أو تحريفها)، أي نوع من أنواع المخاتلة أو المواربة  أو التبرير أو التذرع، على الرغم من عدم مقدرتها الذاتية على المحاسبة في الحال، إلا أن ثمنها مدفوع عاجلاً أم آجلاً. فليس من مؤسسة أو منظمة عمل عام تستطيع تلافي مصيرها، حتى لو طال الزمن، وأكتسبت مهارات أو مكانات أو قوة أو عراقة. ففقدان المصداقية يؤدي إلى إنهيار المبنى على أصحابه، وهم من أصحاب المصلحة الجمعية بوجوده. بينما يسلّم أصحاب المصلحة الخاصة من مخترعي القراءات “الذكية” المصالح العامة المرجو تحقيقها إلى علم الغيب دون مراعاة واجب   تأهيل الفعل المجتمعي على إنتاج أحسن ما عنده .

نظرة واحدة إلى الخريطة، خريطة هذا العالم العربي المتخم بالقراءات الذكية للتعاقدات، لنكتشف وببساطة ومن خلال مجريات الواقع الآن،  ولنرى بالعين المجردة من كل هوىً، الحال الخرافي الذي وصلت إليه أحوال المتعاقدين الذين تم التلاعب بهم على حساب جيوبهم وكراماتهم ودمائهم، ولعل بتعميمي هذا تذكير أخير بالقراءات “الذكية” .