1

العوامل الخفية في وجهة سير المنظمات، الجزء الأول

مقدمة

في محاضرة له بعنوان “التغيير المؤسسي“، يتكلم البروفسور جون فان مانن (John Van Maanan) عن ضرورة النظر إلى المؤسسات من خلال ثلاثة مناظير هي التخطيط الاستراتيجي والسياسة والثقافة لفهم التغيير بكل أبعاده. نظرا لأهمية الموضوع، وبما أن هذه العوامل غالبا ما تكون خافية عن العاملين في المؤسسة، فإننا سوف نعالجه عبر عرض لأهم النقاط التي قدّم لها “فان مانن” في محاضرته، ومن ثم نسقطها على الحزب السوري القومي الاجتماعي لاستخلاص العبر. فنحن، من جهة، لا نزال نرى أن الحزب الذي اسسه سعاده واستشهد في سبيل قضيته، هو خشبة الخلاص لهذه الأمة. ولكننا من جهة أخرى، لا يسعنا سوى الاعتراف أن هذا الحزب، وبالرغم من مضي أكثر من ثمانية عقود على تأسيسه، لم ينجح في تحقيق أي شيء يذكر من غايته المثبتة في دستوره. هذا الموضوع قد بدأ يجد طريقه الى الحوار داخل الحزب. (راجع نتائج استبيان الفينيق في مكان آخر من هذا العدد.)

إننا نعتقد ان ما يعرض له “فان مانن” يلقي ضوءً مهما على عدد من العوامل التي تؤثر في سير المؤسسات في شكل قد لا يكون ظاهرا للعيان. وإننا نأمل، من خلال عرضنا لهذه العوامل، أن نساعد المخلصين على إخراج هذا الحزب العريق من أزمته. ذلك أن ما يمر به الحزب قد مرت به مؤسسات عديدة، بعضها نجح في تجاوزه بنجاح وبعضها الآخر لم ينجح.

 سوف نقدم بحثنا في جزئين. في الجزء الأول، سوف نعرض أهم ما ورد في محاضرة “فان مانن”، وفي الثانية سوف نسقط أفكاره على تجربة الحزب السوري القومي الاجتماعي.

المنظور

يعرّف “فان مانن” المنظور Perspective بأنه “مجموعة من الأفكار المنَظَّمَة التي تساعد في تشكّل فهمنا للأمور والأحداث.” ويضيف أن المناظير تقرّر ماهيّة البيانات التي نراها، أو نسمعها ونشعر بها، وكيف نفسّرها. ولكنه يحذّر أيضا انه ما من منظور واحد كاف لتشكّل فهمٍ شامل للمؤسسة وتشعباتها، خاصة في مراحل التغيير التي قد تمرّ بها.

التخطيط الاستراتيجي

يشرح “فان مانن” ما يقصده بكل من المناظير المذكورة أعلاه. فحين ينظر الى المؤسسة من منظور التخطيط الاستراتيجي يراها مثل “آلة حسنة التصميم، هُندست لتحقيق أهداف معينة، ويجب على جميع أجزائها العمل بتناغم من أجل النجاح.” إنها مبنية على نظرية “الدماغ الكبير” التنظيمية، وعلى عقلانية شاملة (Universal Rationality) ترى ان هناك طريقة صحيحة للقيام بالأمور يجب اتّباعها، وأن هناك أجوبة صحيحة يجب العمل بوحي منها. ومثل أية آلة، هناك مدخلات وإنتاجية ومخرجات، وأن وظيفة المؤسسة هي ان ترفع حاصل الإنتاجية بأقل كلفة ممكنة. أخيرا، إن وجهة التخطيط الاستراتيجي هي المستقبل. إنه ينبئنا بما سنقوم به غدا، أو الأسبوع القادم، أو الربع التالي، أو السنة القادمة.

السياسة

إذا نظرنا الى المؤسسة من منظور السياسة، يقول “فان مانن”، نراها مثل مباراة أو منافسة لا بد وان تنتهي برابح وخاسر. من هذا المنظور، ليس هناك من عقلانية شاملة بل عقلانية مسيّجة أو محدودة بالمركز الذي يحتله الشخص. فإذا كان في التسويق، كان التسويق هو المؤسسة، وإذا كان في الإنتاج، كان الإنتاج. من منظور السياسة، لا يتأتى العمل من التخطيط بل من القوة. والقوة هي القدرة على إنجاز العمل. هنا، المؤسسة هي نظام اجتماعي يقوم على النزاع. كل شخص يطلب القوة لنفسه، ولكن القوة لا يمكن أن تتوزع في شكل متساوٍ. إذا كانت وجهة التخطيط الاستراتيجي هي المستقبل، فإن وجهة السياسة هي الحاضر.

الثقافة

المنظور الثالث هو الثقافة. لا ينظر “فان مانن” إلى الثقافة بمفهومها التقليدي كـ “العُلوم والمَعارف الّتي يُدرِكها الفرد، ومَجموع ما تَوصَّلت إليه أُمَّة أو بَلَد في مُختَلَف الحُقول من أدبٍ وفكرٍ وعلم وفن وصِناعة بِهدف استنارة الذِّهن.” (معجم الجامع). بل إنه حين يستخدمها كمنظور لدراسة المؤسسة، يرى “أننا لسنا كائنات عقلانية بل كائنات تُسيّرها العادات والتقاليد. وأننا نقوم بالأمور بطريقة معينة طالما ان هذه الطريقة تخدمنا.” المؤسسة، من منظور الثقافة، هي، “نظام يرمز للمعاني، والقيم والأنماط والمعايير المألوفة والتقاليد العميقة، حيث العمل يقوم على العادات والعادات تبنى على التقاليد والماضي.”

في محاضرته، وِأثناء تلخيصه للمناظير الثلاثة، يعطي “فان مانن” التخطيط الاستراتيجي اللون الأزرق، “الهادئ والعقلاني، حيث العمل هو نتيجة التخطيط”. ويعطي منظور السياسة اللون الأحمر، “لون النزاع والدماء التي تسيل على بلاط غرف مجالس الإدارة، وحيث العمل هو نتيجة القوة”. أما الثقافة، فإنه يعطيها لوناً ابيضاً، ويعزو ذلك لكون الثقافة، “غير مرئية، وأنها تبقى غير مرئية طالما ان العادات والتقاليد تعمل وتعطي النتيجة المطلوبة. أما حين تتوقف عن العمل، فعندها نبدأ برؤية الأثر السلبي للثقافة السائدة، وعندها لا مناص من التغيير.”

المؤسسة من خلال المناظير الثلاثة

سوف نتابع عرض أبرز الأفكار الأخرى التي يقدمها “فان مانن” في محاضرته.

مسار التخطيط الاستراتيجي عند “فان مانن”

يقوم المسار الاستراتيجي على عدد من خطوات يمثلها الشكل أدنها، وهي: تحديد الأهداف الاستراتيجية ومن ثم تعريف الأنشطة وتعيين من سيتولى القيام بها، وحسن التنسيق، والتراصف مع الأهداف الاستراتيجية. كل هذا يجب ان يصب في ان يكون بنيان المؤسسة وأهدافها منسجمة مع البيئة التي تعمل المؤسسة من ضمنها وبما يحقق أهدافها في هذه البيئة. (أنظر الشكل رقم 1.)

منابع القوة

كما رأينا في تعريفه لمنظور السياسة، فإن المؤسسة من هذا المنظور هي صراع على القوة. فما هي منابع القوة؟ يرد “فان مانن” منابع القوة الى ثلاثة مراكز رئيسية هي، الدور والشخصية والبنية. الدور يستند على الشرعية، ومنها القدرة على المكافأة أو الإكراه، أي الدفع الى الانصياع. أما الشخصية، فتتناول الذكاء والخبرة والكاريزما والذكاء العاطفي والجاذب الشخصي والقدرة الجسدية والقدرة على تخطي المنافسين. أما البنية، فتتعلق بشبكة العلاقات الاجتماعية وبمعرفة طبيعة الأرض والبيئة التي تعمل من ضمنها المؤسسة.

دوافع التغيير الثقافي

يقدم “فان مانن” عددا من العوامل التي تدفع الى التغيير سواء في المؤسسة أو في المجتمع، وكلها تنطلق من عامل أساسي هو تغيّر ما في البيئة. من هذه العوامل، التطور الطبيعي وهذا يجرى ببطء شديد ومن الصعب ملاحظته. وهناك التطور المُمَنْهَج عبر التعلم والتطوير في المؤسسة وهذا يجري وفق عملية مدروسة ومخطط لها. ثم هناك التغيير الفجائي والسريع، ولهذا أسباب عديدة منها: قائد جديد فذ ذو رؤية جديدة، أو بنتيجة فضائح معينة تهز المؤسسة، أو بنتيجة تدفق أعداد كبيرة من “الغرباء” سواء الى المؤسسة بنتيجة الاندماج مع مؤسسة أخرى، أو الهجرات الكبيرة المفاجئة في المجتمع. ومنها التهديم الذاتي وإعادة البناء.

بين النظرية والواقع

سؤل “فان مانن”، في نهاية محاضرته ما إذا كان هناك نموذج أمثل لتناغم عمل المؤسسة من ضمن هذه المناظير، وما إذا كانت المؤسسات تعمل وفق ما شرحه. جوابه لافت للنظر. إنه يقول:

“من الطبيعي ان يجري العمل على أفضل ما يرام في حالة التناغم التام بين الاستراتيجية والسياسة والثقافة. ولكن هذا نادرا ما يحدث. إنه يحدث عادة مع المؤسس، أو في مرحلة التأسيس. إنه يقوم بوضع خطة استراتيجية ويشيد بنيانها ومراكز القوة فيها استنادا الى هذه الخطة. ولكن بعد فترة تنشأ ثقافات جزئية (Sub-Cultures)، وهذه الثقافات الجزئية تقرر هي من سيكون في مركز القوة، وهؤلاء، عندها، يقومون هم بوضع الخطط الاستراتيجية بما يؤمن مصلحتهم واستمرارهم في مراكز القوة هذه. في هذه الحالة، ليس من الضروري ان تكون القرارات “عقلانية”. يكفي ان تتخذ مراكز القوى هذه ما تراه مناسبا من القرارات، ثم تضفي عليها “عقلانية” عبر اختيار استنسابي للبيانات المفيدة لها.”

انتهى الجزء الأول من هذا البحث. في الجزء الثاني سوف نقوم بدراسة لمراحل من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي وفق هذه المناظير.