1

الضحية الأولى – قيس جرجس

العصف الديني المذهبي السياسي والضحية الأولى فلسطين وأخواتها….

أخطر ما يظهر على السطح الثقافي والسياسي بأغلب ما حدث ويحدث على الساحة، وآخرا ساحة فلسطين، هو العصف الديني المذهبي السياسي المنظم والهستريائي المهدد لكينونة الإنسان والأوطان والدول وتقويض مفهوم الله والجانب الروحي الأخلاقي للأديان…

حيث نشهد في كل معركة أو حدث داخلي أو تغيير يمسّ المجتمع والدولة، أو أي معركة خارجية مع الدول المحيطة الطامعة أو المحتلة، كأن الآلهة ترجّلت على الأرض لتقاتل مع الملل، وكل إله ينصر من يدعو له، وذلك بترجّل كثير من السياسيين والمثقفين بأثواب رجال الدين دفاعا عن المقدسات بعناوين مغلّفة بالدفاع عن الحضارة والإنسانية.

ويعود ذلك:

– أولا:

لفشل بناء دول وطنية تقوم بوظائفها الحيوية في المجتمع، دول ديمقراطية تتأسس على حقوق الحرية كاملة بتبني حقوق الإنسان وعلى فصل الدين عن الدولة بتبني المواطنة هويه حقوق لها، وبلا هذا الأساس التعبيري الإنساني الوطني الموّحد سنبقى تطحننا طاحونة الاستبداد السياسي والديني والطائفي والطبقي.

وقد أدّى ذلك إلى نوعين من الحروب الداخلية: حروب الأنظمة على شعوبها والتي أفضت إلى حروب المجتمعات على نفسها كحروب مدمرة مهلكة…حيث أضحت كل بلداننا فلسطين بالمعاناة… وبالتالي تم تقويض كل أدوات المواجهة لكل عدو أو مستعمر أو محتل…

فألف باء المواجهة هو في تلمّس طريق التحرّر من كل أشكال الاستبداد والقضاء عليها في مجتمعاتنا ودولنا أولا…

– ثانيا:

لتأسيس الكيان الصهيوني:

لا يمكن القفز فوق التأثير السياسي والاقتصادي لوجود هذا الكيان بطبيعته الدينية وطريقة تشكيله ونتائج استيطانه المدمرة ووظيفته وقوته المهددة والمجوقلة بدعم لا مثيل له في التاريخ من قبل الدول المهيمنة على العالم…

فلقد تحوّل إلى لاعب كبير وقوي في المنطقة من خلْقه حالة حرب دائمة على بلداننا وفيها، وما لذلك من تأثيرات كثيرة على نمو الدول والمجتمعات، إضافة لتسبّبه بقضية وطنية إنسانية بما أحدثه من تهجير وتشريد لشعب خارج بيوته وأرضه إلى الشتات ومخيمات النزوح والفقر والقهر كقنابل موقوتة للانفجار في وجه الجميع مع ما خلّف ذلك من مشاكل كبيرة في الدول المحيطة، إضافة لما سبّبه من بعث النفير الديني في منطقة لم تبرح ثقافيا وسياسيا موروثها الديني والمذهبي، إضافة لحمايته الأنظمة العربية الفاسدة والمستبدة وكل مكونات التخلف والجهل والاستثمار سياسيا فيما سببه من صراع عربي إسرائيلي أو إسلامي إسرائيلي والاستثمار الدولي فيهما وفي الصلح العربي الإسرائيلي…

لا يمكن اختزال ما يحدث في فلسطين بقصة الشيخ جراح أو قصة المسجد الأقصى كما يتبناها البعض أو اختزال الصراع برد مرحلي ظهر أخيرا ممثلا بمنظمات إسلامية مع إغفال الصفة الدينية للكيان الصهيوني…كما يحلو وكما يستسهل البعض ترويجه كمن يصطاد في المياه العكرة…

القضية في الأصل قضية أرض وبيت ووطن:

– فأول استثمار ديني سياسي كان استثمار الدول الاستعمارية الكبرى في العقدة اليهودية الدينية وترجمة ما يسمى المظلومية الدينية لهم والتي هي نتاج سلوك اليهود الشاذ في بلدانهم وسلوك الحكومات الشاذ تجاه ذلك…

فالقصة كلها تدور على الأرض على “عقار اسمه فلسطين وعدهم بها الله” وعلى بدعة بليغة النفاق أن فلسطين “أرض بلا شعب واليهود شعب بلا أرض”…

إذن امتلاك الأرض هو الهدف وامتلاك الأرض بموجب وعد إلهي لتكون وطنا “لشعب الله المختار” وهم اليهود، واليهود دين وكنيس، أي استخدام الدين كمكوّن أساسي لتصنيع وطن، وليس كمكوّن سلطوي للدولة كما في كل الدول الدينية التي قامت في التاريخ سواء مسيحية أو إسلامية.

فتجميع كل من ينتمي لهذا الدين وتصنيع وطن لهم على عكس كل نواميس الاجتماع الطبيعية في نشوء المجتمع والوطن هو ما يعني الكيان الصهيوني المصطنع بالقوة والهجرة واقتلاع شعب من أرضه بكل الأساليب…

فهذا الكيان هو أكثر من استعمار أو احتلال يحكم بلدا ما ويستنزف موارده وخيراته ويرحل، وهو ليس مجرّد نظام حكم يستبد ببعض شعبه، فالصراع ليس على طبيعة الدولة والنظام فيها أو اسقاط حكم ما، كما أنه يتجاوز بطبيعته نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا الذي تجلّى بحكم البيض للسود ومن ثم اسقاط هذا الحكم العنصري كحل له…

المسألة أبعد وأعقد من ذلك بكثير… وهذا ما ظهر جليا في رفض حكومات الكيان لحل الدولة الديمقراطية على كل فلسطين لكلا الشعبين اليهودي والفلسطيني وحتى رفض اليهود ضمن إسرائيل وخارجها ذلك، فحتى الآن لم تتشكل حركة سياسية ما لمعارضة طبيعة هذا النظام أو نادت بحل الدولة الديمقراطية على مستوى كل فلسطين رغم كل المآسي التي حصلت هناك، فقط هناك بعض الأصوات ظهرت ولم ترتق حتى الآن إلى قوة ثقافية أو سياسية لرفض العقدة اليهودية الدينية وتسييس الدين ضمن ما يسمى الحركة الصهيونية، بينما نجد حركات ودعوات وسياسات ورأي عام ضد الحركات الإسلامية التي تعمل على تسييس الدين واعتبار فلسطين قضية دينية.

لقد قبلت الحكومات الصهيونية مكرهة بحل الدولتين والتنازل عن بعض فلسطين لقيام شبه دولة للفلسطينيين على جزء من فلسطين مع جدار فصل عنصري وعلى أساس أن يتم ترحيل ما بقي منهم ضمن أراضي 1948 إليها وإسقاط حق العودة ومن ثم إقامة يهودية دولة إسرائيل وعاصمتها القدس لأنه بدون القدس تسقط رمزيتها الدينية عندهم.

إن العقدة الدينية اليهودية والتي شهدت الدول الأوربية عليها في القرن السابق وهي “رفض الآخر” فاليهودي لم يقبل الآخر المسيحي في نفس الوطن في دول لم تكن دولا دينية بل علمانية حضارية وتضمن حرية المعتقدات، فكيف ارتضى وقبِل؟ وكيف يمكن تصديقه بقبول الآخر الإسلامي؟ وهل يصبح الحق على الآخر في عدم قبولهم؟ وهل حل هذه المشكلة يكون بخلق مشكلة أكبر ومدمرة لكلا الشعبين عبر تقاتل دائم واستنزاف دائم؟ وهل هناك هوس ديني وتعصّب أكثر ممن يدّعي أنه شعب الله المختار وأن الله قال لهم “اسلطكم على الامم تتأمرون عليها وتأكلون خيراتها” وأكثر من الهوس المسيحي المهوّد عند البعض على أن إسرائيل تهيئ المجيء الثاني للمسيح هل هناك هوس أكثر من هذا الهوس؟؟؟ ليس الهوس الديني والتعصّب خاصة المذاهب الدينية الإسلامية فقط، فلتفتح كل الكتب والنصوص الدينية والمذهبية لتعريتها تلك التي تفيض بالإقصاء والإلغاء ثقافيا وحضاريا وإنسانيا.

فكل هوس ديني مذهبي مسيّس يبرر وجوده وأحقيته بمظلومية تاريخية ويتنفس هواء المقابر ويحفر القبور ويعدم الحياة كما يعدم الله بنفس الوقت ويحوّل الأرض إلى جحيم جهنمي.

والهوس الديني المذهبي يضرب كل المذاهب والأديان بنسب متفاوتة وحسب استثمار الدول والأنظمة له وحسب التطور التاريخي لكل دين ومذهب.

– هل الكيان الصهيوني مثال يحتذى به في العالم الحضاري وعلينا رعايته وحمايته؟ وهو يمثّل أعلى درجة من الإرهاب المنظم بفلكلور دولة عصرية تخدم شعبه فقط مع إرهاب عدمي كانت تمثّله عصاباته في ارتكاب المجازر، ولا يقبل إلّا بفرض سلمه المهين للجميع، كما لم يترك أرضا حتى الآن إلّا واستباحها جيشه وطيرانه المسمّى زورا جيش الدفاع، ولم يقم فقط بضرب المنظمات الإسلامية فقبلها كانت منظمات مقاومة علمانية، وهل هو مغلوب على أمره وبحاجة للتضامن وهناك من يهدده ويهدد أمنه وسلامته وحضارته المزعومة وهو المجوقل بالقوة العسكرية والسياسية والإعلامية وكل دول العالم؟ وهل هو هناك خلاف داخلي حول هذا المشروع الانتحاري؟ هل خرجت مظاهرة ضد ما تمارسه آلة الحرب الإسرائيلية وضد سياسة الاستيطان وهدم البيوت والتنكيل بالناس؟ هل هو بالفعل يميز بين إسلامي أو علماني فلسطيني رافض لهمجيته ومشروعه؟ ومن هي القيادات في السجن الأبدي اليهودي غير مروان البرغوثي وأحمد سعدات قيادات الجبهة الشعبية الفلسطينية؟

– نحن المبتلون بكل العقد الدينية وبكل أنواع الهوس الديني المذهبي السياسي والمستثمر داخليا وإقليميا ودوليا، نحن الشعوب المنكوبة التي تدفع ضريبة استثمار الدول الكبيرة في أبار النفط وفي بئر سحيق في التاريخ اسمه الهوس الديني.

– فإذا كان العالم وعلى رأسه الدول العظمى ومن يقف معهم من المثقفين والسياسيين والحركات والأحزاب معني بوأد الإرهاب الأعمى عليه أن يضع حدا ويحارب ثلاثة مشاريع دينية مذهبية سياسية تقودها ثلاث دول ترعى أنظمة تمارس الإرهاب المنظم وعلى رأس هذه الدول وأولها دولة العدو اليهودي عبر حل منصف للمسألة الفلسطينية إضافة لمشروع ولاية الفقيه ولمشروع أردوغان الحزبي العثماني المستثمرين في ذلك، فالفلسطينيون ضنينون بتحرير أنفسهم وبلادهم وإنهم لفاعلون.

وغير ذلك هو نفاق حضاري إنساني كبير يرعى ضلالا وظلاما مدمرا.