1

الردّة!

.. والردة في معناها القاموسي وليس الديني، “رجوعٌ وعطفة”. وليس هناك أفضل من هاتين الكلمتين لوصف حالة عدد كبير من القوميين، حيال أحد الأغراض الأساسية من وراء تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، نعني به غرض تغيير التقاليد والعادات. وقبل أن ندخل في السبب الداعي للانشغال بهذا الموضوع، نذكّر بما كتب وعلّم سعاده حول التقاليد والعادات ودور الحزب في تغييرها وصَهْرِها.

“إنّ نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة. والتقاليد كما أوضحت في نشوء الأمم ليست شكلية، سطحية، بل لها مساس بالاقتناعات العميقة في نفس الإنسان، وهي تختلف عن العادات، فالعادات هي التي يمكن أن تتغير بسهولة لأنها تتعلق بسطحيات الحياة أما التقاليد فلها علاقة بالاقتناعات النفسية العميقة…فالتقاليد التي تمثل إما مبادئ أو استمرارًا لمبادئ ليست لأجل حياة الأمة وارتقائها يجب أن تصهر لأجل الحياة وليس لأجل أن تكون الحياة لها.” المحاضرة الثانية.

والصَهْرُ في التعدين، يعني إذابة المعدن أو المعادن بغية الخروج بمعدنٍ جديد. وفي هذا المعدن الجديد، نادرًا ما يُرى أثر لأيّ من المعادن القديمة. نتابع مع سعاده:

“…إنّ غرض الحزب هو توجيه حياة الأمة السورية نحو التقدم والفلاح، هو تحريك عناصر القوة القومية فيها لتحطيم قوة التقاليد الرثة وتحرير الأمة من قيود الخمول والسكون إلى عقائد مهترئة… ونحن في الحزب في مدة نحو خمس عشرة سنة ونيف، قد أنشأنا وكوّنا تقاليد جديدة تظهر فيها قيمة نظرنا واتجاهنا وفاعليتنا في الحياة. وإننا حريصون جدًا على أن تستمر هذه التقاليد الجديدة التي تؤمن حياة جديدة فيها العز والكرامة والخير والمجد.” (المحاضرة العاشرة).”

إذن، التقاليد لها مساسٌ بالاقتناعات العميقة للإنسان، وبعضها مدعاة للخمول والسكون إلى عقائد مهترئة، وهذه العقائد المهترئة يجب “صهرها” لأجل الحياة، وإن الحزب نجح خلال خمس عشرة سنة، أي منذ تأسيسه ولغاية تاريخ المحاضرة، في إنشاء تقاليد جديدة تظهر فيها قيمة نظره واتجاهه وفاعليته.

ما الداعي لهذا الكلام كله؟

الداعي هو ما نلاحظه من تباين ناشئ في صفوف القوميين بين نظرتين إلى الموت حين نقرأ نعيهم لأحبتهم. الأولى تقول “البقاء للأمة” والثانية تقول، “رضوان الله عليه” أو أي من مثيلاتها. بعض يكتفي بنعي حزبي صرف، وبعض بنعي ديني صرف، أما الأكثرية فـ”تَشْكُلُها” بخلط “المسيح قام”، أو “أيتها النفس المطمئنة”، بـ “البقاء للأمة والخلود لسعاده”!

هذا التباين الذي يؤدي إلى نقاشات حادة وجارحة أحيانًا، يخفي وراءه أمرًا أكبر في نظرنا. إنه يحمل عقلية “رِجْلٌ في فلاحة النهضة ورِجْلٌ في بُوْر المرجعيات الدينية”. هذه العقلية نفسها يمكن سحبها في جميع مناحي الحياة، من التآخي مع الواقع السياسي والانخراط في ألاعيبه، والذي أوصلنا إلى “الواقع اللبناني” وكل الوقائع التي تلت، وصولاً إلى استثارة المذهبيات في خلافات حزبية داخلية.

داخل الحزب؟ نعم. ولعل المثل الأكثر قباحةً هو قيام فخري معلوف، الأمين الذي عوّل عليه سعاده كثيرًا، وانتهى عضوًا في أحد أكثر المنظمات الكاثوليكية تطرفًا، برمي سعاده بتهمة الإلحاد. السبب في ذلك ما ورد في كتاب نشوء الأمم من نقض للنظرة الدينية، وموقف سعاده من تدخل الكنيسة الكاثوليكية في السياسة. ولكن الأمر لا ينتهي مع تلك الحادثة التي حسمها سعاده نظاميًا. إن هذه الظاهرة تنتشر،وسوف نعطي بعض الأمثلة الموثقة التي نحن على معرفة بتفاصيلها.

  • قيام منفذية في الحزب بالدعوة إلى “إفطار عن أرواح شهداء الحزب”. هذا استدعى سخرية مرّة ولكن خطيرة في مدلولها، إذ كتب أحد الرفقاء معلقًا، “وماذا عن الشهداء المسيحيين؟”
  • قيام مديرية في الحزب بإقامة “إفطار” في مركز المديرية. وحين اعترض معترض على فتح هذا الباب وتداعياته قيل له، “ولكنك حين كنت مديرًا كنت “تجرنا” إلى الكنائس لنقوم بواجب التعزية.”
  • قيام مسؤول حزبي بالكتابة إلى عدد من القوميين واصفا مديريتهم أنها “عصابة …” والنقاط الثلاث هي مذهب معين، بسبب كون غالبية أعضاء تلك المديرية من ذلك المذهب.
  • موافقة مسؤول حزبي آخر على رسالة المسؤول الأول ووصفه إياها أنها “رائعة”.
  • قيام مسؤول حزبي باتهامي شخصيًا أني اتخذت موقفًا معينًا بسبب “مذهبيتي”، علمًا أنه أخطأ في المذهب المسجل في قيدي العائلي، وأخطأ أكثر في اتهامي بما لا أعترف به أساسًا.

كل هذه الممارسات نُقلت إلى القيادات الحزبية العليا حين حصولها، فكان موقفها الدائم تثاؤبًا طويلاً. وليس هذا بالأمر المستغرب، أو ليست هي نفسها التي تنشر صورًا للزعيم مع مرجعيات مذهبية في استجداء سياسي رخيص ويائس!

من التقاليد الجديدة التي حاول سعاده غرسها في نفوس القوميين أولاً، نظرة جديدة إلى الحياة والموت تنطلق من حياة المجتمع وخلود الإنسان فيه من خلال أعماله، وعدم التدخل في المعتقدات الفردية حول الماوراء بين شخص وآخر. واستطرادًا أن الانسان الحقيقي هو الانسان المجتمع، وأن الأفراد يأتون ويذهبون أما الأمة -المجتمع، فهي الباقية. وقد اختصر سعاده كل هذا، حيال الموت، بكلمتين: “البقاء للأمة”.

قبل “البقاء للأمة”، كان كل سوري يعزّي أحباءه انطلاقًا من انتمائه المذهبي وكله متمحور حول الجنة والنار وطلب “الرحمة” لروح الميت عبر استرضاء الله ورسله. وليس صعبًا على المتتبع لعبارات التعزية تلك معرفة انتماء صاحبها المذهبي، فنعي يبدأ بـ “المسيح قام حقا قام” غير “بالرضى والتسليم” وغير “أيتها النفس المطمئنة”، وهكذا.

لنكن واضحين، إن أخطر التقاليد البالية التي عمل سعاده على صَهرِها هي هذه التقاليد الدينية التي تنطلق من المرجعيات الدينية البالية المجزئة لوحدة الأمة، وتغذيها في آن معًا. صَهرُها لا يكون بالردّة إليها والاتكاء عليها، بل بنبذها وبناء تقاليد جديدة فيها حياة للأمة.

قبل النهضة كان يمكن القول “رضوان الله عليه”. في النهضة، لنا رؤية موحدة للحياة والموت نختصرها بكلمتين: البقاء للأمة. نقطة على السطر.