1

الحلوان والصراع – ابن البلد، راني عمايري

كانت الفينيق قد نشرت تباعا قصصا قصيرة بقلم “ابن البلد.” اليوم قرر الزميل راني عمايري أن يكشف هويته. إنه ابن البلد.

جميل هو الربيع في يونشوبينغ. هذه المدينة السويدية الجميلة، والتي كغيرها من مدن وبلدات السويد، يختبئ جمالها تحت طبقات من الثلج لسبعة أو ثمانية أشهر خلال العام.

كانوا في سوريا يقولون “في تموّز.. يغلي الماء في الكوز”، ولكن هنا تمّوز أو يوليو مجرد شهر ماطر آخر، يعتبر مجازاً جزءاً من أشهر الربيع. الشيء الوحيد الذي يميّز تمّوز هذا العام، بأن فيه عيد الفطر. صحيح أنه لا أجواء للعيد أو رمضان هنا، فنحن تركنا بقايا العيد هناك في مخيم اليرموك. إذ لم يسعفنا التهجير الفجائي أن نحزمه مع حقائبنا، فتخلينا عنه قسراً وقهراً.

عموماً.. بدأت أتعود على رمضان والعيد في مهجري هذا. أجواء بسيطة أصنعها داخل بيتي حتى لا ينسى أولادي هذا الإرث العظيم. زينة بسيطة مع غطاء طاولة مزين بنقوش عربية وسجادات صلاة مبطنة اشتريتها من محل عربي في مالمو. بهذه الأشياء ما زلت أحارب غربتي وأتمسك بذاكرتي وهويتي وماضي أبنائي.

أما أطفالي المساكين.. فلم يروا شارع لوبية في مثل هذه الأيام الجميلة. شوارع لا تنام، زحام وصراخ أصوات الباعة والبسطات، يتخلله شجار سائقي سيارات لا تستطيع اجتياز الشوارع لشدة اكتظاظها. من لم يعرف المخيّم في مثل هذه الأيام.. لن يعرف معنى استقبال العيد. ولهذه الأسباب تحديداً ما زلت أتمسك بتلك الشعائر الجميلة وأحاول نقلها لأولادي. تماماً كما نقلها لي أبي وجدي من قبله. كانت جلّ حكايات جدّي قبل النوم عن فلسطين، وتلك الجنة المفقودة. لطالما كان جدي ماهراً بهذه الحكايا.. أكاد أجزم بأنني كنت أشم رائحة عرق الفلاحين في بساتين الزيتون من حكايات جدّي.

أنا لست ماهراً مثل جدّي ولم أرث نعمة السرد والحكايا. أنا إنسان بسيط.. جلّ ما أتمناه تذكير أولادي من أي أرض أتوا، ولمَ نحن هنا وماذا يخبّئه الغد لنا.

وفي خضمّ حديثي إليهم، يسألونني أسئلة كثيرة.. أجيب عن بعضها وأغيّر الموضوع في أغلبها.

في الأيام الأخيرة.. طفت على السطح مشكلة جديدة بدأت في استيطان حيّ الشيخ جرّاح وتزامنت مع إحياء العشر الأواخر في الأقصى وما نتج عن ذلك من صدامات واعتقالات. ثم تطوّرت الأحداث سريعاً وخرجت عن السيطرة، وبدأت صور جنازات الشهداء تتوالى مع صرخات ذويهم ونداءات الانتقام والرد. آخرها مقطع رأيته لطفل في عمر ابني الأصغر يجري وراء جنازة أبيه ويصرخ بحسرة. لم أستطع إكمال ذلك الفيديو، بل وذهبت أختبئ وحدي في غرفتي.. قبل أن تصل بعض هذه المقاطع إلى أبنائي وينهالوا عليّ بوابل من الأسئلة مثل “ماذا سنفعل؟ هل نصمت؟ لم نحن هنا؟ وكيف سنذهب إليهم؟ أليس هذا وطننا؟” وأسئلة كثيرة من هذا النوع.

لم أعرف ماذا أقول وكيف أجيب. لأن معهم حق في كل ما يقولونه ويسألون عنه. نحن ابتعدنا كثيراً عن تلك الأرض، وذلك الحلم. نمنّي أنفسنا ببعض أبيات الشعر مثل “أنا ما هنت في وطني” و”مأساتي التي أحيا، نصيبي من مآسيكم”. وبعد أن نقول هذه الأبيات، تبرد نارنا قليلاً ونبدأ نلتمس لأنفسنا أعذاراً.

“لقد وصلنا إلى هذا الجزء الشمالي البعيد من الكرة الأرضية بعد نصف موت ويأس وعجز، فكيف يا أبنائي سنعود إلى هناك؟” هكذا أجبتهم قبل أن أدسّهم كالسمّ في فراشهم.

كانت ليلة صعبة عليّ في الأمس.. تأخرت حتى نمت واستيقظت باكراً أرى ذلك الطفل حيثما أدرت وجهي. قررت اليوم ألا أتابع الأخبار.. رغم أن الفضول والترقب والألم يقتلونني. فرؤية الأخبار.. تحفر في قلبي كلمات كثيرة مثل “متخاذل.. هارب.. جبان” وصفات أخرى كثيرة.

استيقظت قبل الجميع. حضّرت كوب نسكافيه دافئ ورحت أنظر إلى نفسي في المرآة. صرت أشبه جدّي إلى حد كبير، وخصوصاً مع هذه البيجاما القطنية المقلّمة التي أرتديها، فهي تشبه بيجامة جدي في مخيم اليرموك. أشبه شكلاً ربما.. ولكن هيهات.. فذلك الرجل شيء آخر.. تكفي موهبته بالحكايات.

 كبرتُ سريعاً هنا في الغربة. صحيح أنها مجرّد أربع سنوات عجاف، ولكنها كافية بأن تجعلني أشبه جدّي.

وفي لحظات تأملي لنفسي في المرآة تذكرت شيئاً مهمّاً. فرمضان والعيد وأحداث فلسطين الأخيرة أنسوني تماماً بأنني أنتظر قرار التجنيس في أي لحظة. لم أتابع بريدي الإلكتروني منذ ثلاثة أيام على الأقل.. ولمَ أتابعه أصلاً؟ فأنا عاطل عن العمل ولا أنتظر أي شيء مهم سوى ذلك القرار.

بدأتُ بإغلاق النوافذ الكثيرة المفتوحة على سطح مكتبي، ورحت أبحث عن صفحة تدخلني إلى بريدي الإلكتروني بلهفة. بدا الأمر وكأنني أدخل كهف ذكريات تغطيه صور وفيديوهات التفجير والحرائق والتهجير وذلك الطفل الذي يودّع أباه مجدداً. يا إلهي.. لم ظهرت الصورة أمامي من جديد! كيف سأكمل نهاري حامل ذنب عيد هذا الولد. ما أقسى تلك الهدية التي تلقاها ذلك الطفل في العيد.

وجدتُ نفسي تلقائياً أفتح القنوات الإخبارية لأرى ماذا حدث في الليل. لأصطدم بصور صواريخ المقاومة تنهمر على تل أبيب، والجيش الإسرائيلي يرد بقصف غزة. بدأت الجنازات والأعداد تتوالى، ورحت كالمجنون أقلّب الصفحات وأضع يديّ على رأسي من هول ما أرى. توقفتُ لبرهة وكأنني نسيت ما جئت من أجله. كنت سأنسى من جديد، طبيعي أن أنسى بعد كل ما أراه هنا.

التقطتُ أنفاس ذاكرتي، وذهبت لبريدي الإلكتروني مجدداً. فتحتُ المتصفح ونظرت إليه بعينين لا تنتظران الكثير ريثما يحمّل الصفحة. وهناك.. كان قرار التجنيس ينتظرني.

قفزت من فوق الكرسي، ورحت أصرخ بشكل هيستيري حتى أيقظتُ كل من في البيت. ضممت أطفالي وبكيت من السعادة، فاليوم استطعت تأمينهم، اليوم فتحت لهم أبواب الجغرافيا، وكتبت لهم تاريخاً جديداً.. وربّما ضمنت لهم مكاناً في الجنّة.

وعلى الرغم من هذه الساعة الباكرة في هذا الصباح الجميل.. أمسكتُ هاتفي ورحت أكلّم الجميع.. كل من أعرفهم، مستخدماً كافة وسائل التواصل الممكنة، ثم حدّثت صفحتي الزرقاء بهذا الخبر السعيد. تباينت الردود بين مهلّل ومصفق ومزغرد ومعلّق بالكلمات أو بالإيموجي. ومع كل هذا التباين في الردود.. يجتمع العرب على طلب “الحلوان”. نعم.. الجميع يريد مشاركتك الفرحة بإضافة عبء مالي عليك، ومهما كان الحلوان كبيراً.. فلن يعجب أحداً، وسيطلبون المزيد.

كانت هذه اللحظات الهيستيرية كفيلة بأن تسحبني من مزاجي الكئيب وتضخ في عروقي الأدرينالين من جديد. شعرت فجأة بالحياة والفخر والقدرة على التحليق. احترت في النظر عبر الشبّاك.. أو بالردّ على المعلّقين، أو بمحاولة تذكّر مزيد من المعارف ممن سيطلبون الحلوان. بل وبدأت أفكّر في حلوان يسكت الجميع.. ورحت أرسم صور الولائم والهدايا. صار للمستقبل ملامح.. وللحاضر طعم.

ساعات كثيرة قضيتها أقفز من كرسي لآخر.. نسيت وزني، نسيت الوقت.. نسيت نفسي.

وفي خضمّ كل ذلك النسيان.. اكتشفت أنني نسيت فلسطين.

نسيت ذلك الولد الذي يجري وراء جنازة أبيه. نسيت قصفهم وقضيتهم وحربهم.. وكأنها ليست قصفي وقضيتي وحربي.

أهكذا يفعل قرار الجنسية؟ يسحبني من كل ذلك وكأنني لا أنتمي لكل ما انتميت إليه يوماً ما؟ أنا لا أنتمي لورقة تثبت بأنني أهل للجنسية بمجرّد أنني عشت هنا سنوات ثلاث أو أربع. لا أنتمي إلى أرض أتعلّم لغتها. تلك الأرض التي تتعلّم لغتها لا تليق للارتقاء إلى رتبة وطن، فالوطن الحقيقي هو لسانك ومفرداتك ولغتك. أنا لا أنتمي لكل ذلك.. بل أنتمي إلى دمية مسحوقة تحت سقف منهار. إلى بقايا منزل بسيط تحت الركام، وصورة قديمة لأب راحل كساها التراب. أنتمي إلى حجر أسقطته قذيفة، وحملته يد. أنتمي إلى تلك اليد، وفوقها خيط عرق يسقط من رقبة حامل الحجر. هذا العرق لا تختلف رائحته عن العرق في حكايات جدي.. وأنا أنتمي إلى حكايات جدّي وأشجار الزيتون فيها. أنتمي إلى مفتاحه المعلّق فوق مسمار قديم.. وإلى حلم بالعودة معلّق على ذات المسمار.

أنا أنتمي إلى ذهول على وجه أب مفجوع بعائلته. إلى صراخ أم لا يسمعها أحد. أنتمي إلى رحلة تشرد، نظرة تحدّ، ابتسامة معتقل، لحظة إيمان بالقدر، نزاع داخلي بين فرحة الشهيد ومرارة الفقد.

أنتمي إلى دفاع مستميت ضد الطرد من بيت أو حي أو مدينة أو وطن. أنتمي إلى رحلة فوق البحر آخر ما يخيف فيها دوار البحر. أنتمي إلى مظاهرة تضامن وحنجرة بحّتها الكلمات. لكلمات مكتوبة على عجل فوق لافتة.. أو عبارة “عائدون” على أحد جدران المخيم. أنا أنتمي للاستنكار في أسئلة أبنائي وللاستهجان داخل صدري.. للخجل مما أنظر إليه والخجل الأكبر مما لا أنظر إليه.

أنا أنتمي إلى حاضر لا طعم له، ومستقبل بلا ملامح.. إلى وطن تم محوه عن خارطة العالم.. ولكن لا شيء سيمحوه من قلبك. أنا.. أنتمي إلى كل ذلك.

جلستُ قليلاً كعاصفة أطفأها الوقت.. ورحت أفتح ما أغلقته من نوافذ لأعرف المزيد.

اتركني من ورقة تحمل جنسيّة وتقرّ أنه قد بات لك وطن. فأنا لأول مرّة منذ ولدت.. أشعر بأنني بلا وطن.

رحت أشاهد وأرى.. ويصفعني الانتماء لهذا الشعب فخراً.. ما أجملكم.. ألا ليتني معكم. ومأساتي التي أحيا لا تقارن بمآسيكم. أنتم الوطن والفخر والانتماء.. وأنتم أجمل قرار جنسيّة.

 أما الحلوان.. فلا إنجاز غير ما تنجزون يستحق الحلوان.

  • النهاية –