1

الاتحاد الأوروبي بين المبدأ والواقع وبين التاريخ والحقيقة

 

قام الاتحاد الأوروبي، بصيغته الأصلية التي عُرفت بـ “المؤسسة الاقتصادية الأوروبية (European Economic Community)”، عقب الحرب العالمية الثانية وفق مبدأ العمل على منع اندلاع الحروب كالتي اجتاحت القارة الأوروبية وأودت بحياة مواطنيها. فكان الهدف من الحماية المشتركة والوحدة الاقتصادية والسياسية الحصول على سلام أوروبي دائم.

كانت الحقبات الأولى من قيام هذا الاتحاد، بدءاً من مجموعة الفحم والصلب وحتى يومنا هذا، مراحل ازدهار اقتصادي وعمليات توحيد دول وقوميات متعددة تحت لواء أوروبي وغطاء الصالح العام والازدهار والسلم الدائمين.

الوحدة الاقتصادية هي نتاج الوحدة الاجتماعية

إذا كان هدف الاتحاد الأوروبي هو عملية سلام دائم في أوروبا، فهذا يعني أن ما سبق هذا الهدف هو حروب وخلافات وصراعات أوروبية غايتها الهيمنة وبسط النفوذ. وكان من المفترض أن تقوم الوحدة الاجتماعية الجديدة على إزالة الخلافات والصراعات وتبني توجه سياسي اقتصادي واحد ينعش أوروبا ويجعل منها من جديد إحدى القوى الكبرى على الساحة العالمية. إذاً كان من المفترض على الوحدة الاجتماعية الجديدة أن تدفن التاريخ الوطني لكل كيان أوروبي على حدة، فيتم البدء بتاريخ جديد يربط كافة الكيانات الأوروبية ببعضها، ويصار إلى خوض تاريخ معاصر يلتف حوله المواطن الأوروبي أياً كان ماضيه.

أزمتان كبيرتان في السنوات القلائل الماضية أثبتتا عدم نجاح هذه الوحدة الاجتماعية حتى ولو بدا الظاهر الاقتصادي معافى ومنتعشاً وموحداً: الأزمة الاقتصادية العالمية، وأزمة المهجرين.

عندما برزت تداعيات الأزمة الاقتصادية (العام 2000 في الولايات المتحدة الأميركية) لتطال العالم بأسره، بدأت عملية الفرز الطبيعي في التوجهات الاقتصادية والسياسية الأوروبية أولاً على مستوى الأحزاب الوطنية، وثانياً على مستوى التجمعات الحزبية في البرلمان الأوروبي. كل حزب وطني قدم المقترحات والحلول بهدف انتشال الدولة التي ينتمي إليها من الانهيار الاقتصادي، مستنداً إلى مبادئه الخاصة. ومن ثم تابعت هذه الأحزاب تحركاتها لتوطدها في التجمعات الحزبية التي تنتمي إليها في الاتحاد الأوروبي. فكنا نرى اختلاف التوجهات بين الليبراليين والأحزاب الموالية لها من جهة والاشتراكيين والأحزاب الموالية لها من جهة أخرى. وهذا أمر واقع بين هذين التيارين الحزبيين منذ البداية وفي كافة الدول. ولكن أن نشهد تجديداً لنشاط أحزاب تتصف كلها بالطابع القومي والشعبوي، فهذا أمر مستغرَب إذ كان من المفترض أن يقضى على وجودها بفضل الوحدة الأوروبية.

الفكر “القومي” الأوروبي مناف تماماً للفكر القومي الذي نؤمن به. ففي حين أننا نؤمن بفكرة التفاعل الاجتماعي مع الأرض بغض النظر عن أصل وعرق ودين المواطن، نجد أن للمواطن الأوروبي ردة فعل سلبية للفكر القومي الذي تبثه الأحزاب الشعبوية والقومية الأوروبية، والتي تعود أصولها إلى انطلاق الحزب النازي الألماني الذي يعتمد على العرق والأصل كمبدأ للقومية، والذي عانى المواطن الأوروبي من توسعاته العسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية. فهذه الأحزاب لم تختف تماماً بل كانت في رقاد مرحلي حتى بدء الأزمة الاقتصادية التي أعطتها الحجج الكافية لكي تستفيق وتبدأ بالمطالبة بالمصالح القومية كأساس للتوجهات السياسية والاقتصادية.

أوروبا الغربية مليئة بهذه التيارات والأحزاب، والاتحاد الأوروبي يخشى من انتشارها لأنها قادرة على اللعب في ملعب الاقتصاد والصالح العام أكثر من الأحزاب التقليدية، فتستغل استياء المواطن الأوروبي من الأنظمة الاقتصادية التقليدية وتحرضه على المطالبة بالانفصال عن اتحاد أوروبي غير مستقر لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا حتى عسكرياً. فرنسا، بلجيكا، هولندا، إيطاليا، النمسا، الدانمارك وغيرها… دول شهدت بمجملها تزايداً في عدد الناخبين الانفصاليين. والملفت للانتباه هو أن الأحزاب التي تنضوي تحت اسم المسيحيين الديمقراطيين، أو الديمقراطيين الاجتماعيين هي الأكثر ميلاً إلى الأحزاب الشعبوية القومية الأوروبية، وكأن تسميتَي الديمقراطية والتوجه الديمقراطي اللتين تطالب بهما مخصصتان فقط لمواطني العرق الواحد والدين الواحد، وخاصة التاريخ الواحد. كما أن هذه الأحزاب تختلف في ما بينها في توجهها القومي، فمنها من يستند إلى فكرة ومبدأ التاريخ الوطني القومي، ومنها من هو قائم على العنصرية وكره الأجانب كفكرة ومبدأ أساسيين، فأصبح الأجنبي والمسلم بشكل خاص هو أساس العجز الأمني والاقتصادي الذي تعاني منه الدول.

ففي حين أن الطابع العام في أوروبا الغربية قائم على قبول الآخر والمطالبة بالديمقراطية والانفتاح واحترام حقوق الإنسان إلى جانب وجود أحزاب قومية وشعبوية، نجد أن الطابع العام في دول أوروبا الشرقية قائم على مبدأ وفكرة التاريخ الوطني القومي. هذه الدول دخلت الاتحاد الأوروبي مؤخراً وأصبحت تشكل مع دول أوروبا الغربية وحدة من المفترض أن تكون متماسكة سياسياً واقتصادياً. إنما هذه الوحدة لم تتم ولم يحصل أي اندماج مع أوروبا الغربية بسبب أو بفضل تاريخ مختلف واقتصاد مختلف وتوجه سياسي مختلف تعود كل أسبابه إلى وجود هذه الدول سابقاً في الاتحاد السوفياتي.

أولى الصدمات التي واجهها العالم من التناقضات بين المبادئ والممارسات الأوروبية بدت في معالجة أزمة المهجرين التي أفرزتها الأزمة السورية، والتي حاول حينها المهجرون الدخول إلى الأراضي الأوروبية من معابر عدة أكبرها المعبر التركي. فكانت ردة فعل دول أوروبا الشرقية إقفال الحدود على كل من حاول العبور وصده بأسوأ الوسائل، بدءاً من تدعيم أليات الحدود، مروراً ببناء جدران أو مخيمات  مخصصة لحصر المهجرين وتصنيفهم، وصولاً إلى تطوير آليات قضائية تتنافى والمشروع الأوروبي. لكن أوروبا الغربية لم تكن في أحسن حال، فسياسة الهجرة الأوروبية التي اعتمدت في معاهدة لشبونة عام 2008، لم يطبق في البداية إلا القليل من بنودها. وتم بشكل غير علني رفضها كلياً عندما أصبح المواطن الأوروبي يشعر أن الأجنبي يهدد أمنه وسلامته. فلجأت أوروبا عندها إلى:

– إسناد دور حماية الحدود الأوروبية إلى دول أخرى. مثال على ذلك الأموال التي أعطيت لتركيا وأوكرانيا في إدارة أزمة المهجرين. مثال آخر الطلب من ليبيا ـ دولة شبه غائبة – الاعتناء بموضوع اللجوء غير الشرعي.

– رفض الدول الأوروبية اتباع مبدأ الحصص في توزيع أعداد اللاجئين.

– قيام كل دولة على حدة باتخاذ تدابير أمنية خاصة بها بدعم من مجلس الاتحاد الأوروبي الذي شجع الدول الأوروبية على تدعيم حدودها داخل فضاء شنغن، فأصبح مفهوم الأجنبي يشمل كذلك مواطني أوروبا الشرقية.

إن ما أفرزه التباين بين المبادئ والممارسات الأوروبية تجاه المواطن الأوروبي نفسه جعل هنغاريا وبولونيا وتشيكيا وسلوفاكيا مثلاً (أعضاء سابقون في الاتحاد السوفياتي) أن ترفض رفضاً قاطعاً استقبال أي من المهجرين. وقد كان حرياً، رداً على تصرف هذه الدول العنصري والمنافي للقانون الإنساني، تذكيرها أن العالم استقبل عام 1956 حوالي 200.000 ألف مهجر هنغاري، و200.000 مهجر تشيكوسلوفاكي عام 1968، و250.000 مهجر بولوني عام 1981. لكن تاريخ أوروبا الشرقية الذي ما زال حاضراً في الذاكرة الجماعية كان سبباً في ردة الفعل هذه.

ويعزو الباحثون الاجتماعيون السبب الرئيسي في هذا التوجه إلى أن هذه الدول الأوروبية الشرقية لم تكن في يوم من الأيام دولاً مستعمِرة، ولم تعتد رؤية الأجنبي في حياتها اليومية (عام 2009 كان المزارع الروماني يرى للمرة الأولى إنساناً أفريقياً في حياته) عكس دول أوروبا الغربية التي ما زال بعضها حتى يومنا هذا يعتبر مستعمِراً. أما العامل الثاني فهو معاناة هذه الدول نفسها من الحكم التعسفي والسيطرة الأجنبية على أراضيها، فكان لها تاريخ واحد يربطها ببعضها البعض، غير تاريخ أوروبا الغربية القائم على استغلال الأجنبي وعلى التعامل معه في شتى المجالات. فالقيم التي تتكلم عنها أوروبا الغربية كالتنوع الإثني والديني واللغوي والحضاري ترفضه أوروبا الشرقية قلباً وقالباً لأنها كانت مجبرة إبان الحكم السوفياتي على أن تقبل به عنوة. وبتحررها من الاتحاد السوفياتي تحررت من قيود قبول الآخر الذي يمثل بالنسبة لها الماضي المأسوي حيث كانت مجبرة على تكلم لغة غير لغتها، والتخلي عن حدودها التاريخية للانصهار في اتحاد لا رابط يجمعها به. حتى أنها كانت الأولى في رفض العلمانية التي يطالب بها الاتحاد الأوروبي والإصرار على الدين المسيحي كعنصر من عناصر الهوية الأوروبية، وذلك بسبب منع مواطن أوروبا الشرقية من ممارسة معتقداته الدينية إبان الحقبة الشيوعية السوفياتية. لذلك يمكننا القول إن دول أوروبا الشرقية رغبت بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي للتخلص من السيطرة السوفياتية والعمل على الانفتاح الاقتصادي، لكنها حتى اليوم لم تستطع من الناحية النفسية الاجتماعية التاريخية السياسية تناسي الماضي والتخلي عن الهوية التي شعرت بفقدانها فترات طويلة، أمر تخطته أوروبا الغربية منذ زمن لا بأس به بالرغم من وجود العديد من الحركات العنصرية المتطرفة.

القومية: إحدى القيم الاجتماعية

إن القومية هي إحدى القيم الاجتماعية الأكثر تأرجحاً بين فكر متشدد عنصري، وتوجه وسط ديمقراطي، وسياسة مستقبلية قائمة على الانفتاح وقبول الآخر. أمتنا ليست بعيدة عن هذا التأرجح، ولدينا فيها كافة مستويات فهم القومية. وبغض النظر عن درجة التطور والنمو والانفتاح الفكري الذي وصلت إليه الأمم أو الذي تطمح إلى الوصول إليه، تبقى القومية هي الركن الأساسي الذي تبنى عليه الهويات. إنها معيار الأرض والتاريخ والاجتماع والثقافة والاقتصاد والسياسة.

حالياً، في عالم اليوم، يقوم العديد من التحالفات الدولية على أساس الربح الاقتصادي من دون الاهتمام بدور القومية التاريخي والاجتماعي والثقافي في إنجاح هذا التحالف. وهنا لا أطالب بالتوجه العنصري للقومية والتقوقع في عرق أو لغة أو دين، إنما القومية كدعامة أساسية لقبول الآخر وتأقلمه وانصهاره في المجتمع الذي يعيش فيه من دون التخلي عن التاريخ الحضاري والثقافي الذي يغذي القيمة نفسها. ما حصل في الاتحاد الأوروبي هو محاولة صهر مجتمعات على حساب التنوع العرقي والثقافي والحضاري بغرض النمو الاقتصادي كإحدى غاياته إنما ليست الغاية الوحيدة. والتأقلم في مجتمعات جديدة يتطلب أجيالاً كثيرة من المحاولات والممارسات الاجتماعية الموحدة، ويتطلب الشعور بالانتماء إلى هذا المجتمع الجديد لخلق تاريخ مليء بالحضارة الواحدة الماثلة دون تقطع على سير الخط التاريخي العام.

الاتحاد الأوروبي يخاف اليوم من الانفلات والتشرذم بسبب استمرار الشعور بقوميات متعددة؛ كما لم ينجح عبر ضم دول أوروبا الشرقية في خلق خط تاريخي جديد ينضوي تحته العديد من الحقبات التاريخية المتعددة. فبالرغم من وجود حركات يمينية متطرفة في أوروبا الغربية، هناك قاسم تاريخي حضاري يجمع دولها في ما بينها. لكن لا يمكن العثور على هذا القاسم المشترك بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية. والاختلاف في التوجهات السياسية والاقتصادية بين الدول الأوروبية الغربية والشرقية أكبر دليل على الحاجة إلى الوقت الكافي لانصهار المجتمعات مع بعضها البعض. قبول الآخر ينبع من قبول الإنسان لنفسه ضمن إطار قوميته الحضارية والثقافية وتنزه هذه القيمة ـ القومية – عن دخول وفعل عناصر خارجية فيها.

دول أوروبا الشرقية تعاني اليوم، إن جاز التعبير، من قبول ذاتها كما هي، مجبولة بتاريخها الحضاري والثقافي أي الاجتماعي. فالخوف من اندثار هذه الذات يجعلها تتوقع أكثر وتخاف اقتراب الأخر أوروبياً كان أم غير أوروبي. أما في أمتنا فأنا أعتبر، وهذا رأيي الخاص ولا ألزم به أحداً، أن هناك شعوراً سائداً بفقدان ذاتنا… فما عادت تخيفنا العناصر الخارجية ولا تأثيرها علينا وعلى فقدان قوميتنا!

ا