1

الأدب السوري وأثره في النهضة المصرية الأخيرة – للأديب الناقد والمفكر الأستاذ البحراوي


بحث نقدي بريء

القومية المصرية والقومية السورية – تقدم النهضة في سوريا – مميزاتها

نهضة مصر المتأخرة تنسخ نهضة سوريا – الخلاصة

قد لا تؤدي كلمة “قومية” هنا المعنى الذي نود أن تطبعه في ذهن القارىء، فإننا نقصد منها الذاتية، أو بعبارة أوضح الشخصية الأدبية. ونريد أن نقول إن المصريين شخصية أدبية تبقى صبغتها تحول بين الاندماج الكلي والفناء في أية قومية أدبية أخرى، بعكس إخواننا السوريين فسرعان ما يندمجون وينسون مدلولهم الأصيل! وهم مع ذلك لن يملأوا هذه القومية الجديدة – التي تخلق لهم – ويسيرون بين الشخصيتين كالغراب الذي أراد أن يقلد الطاووس! ولم نر – ولا نحسب القارىء رأى – سوريا يتقن فناً من الفنون أو حتى لغة من اللغات اتقاناً حسناً اللهم إلا نادراً. فهو يعرف من كل مسألة طرفاً بروح نفعية تجارية، ولكنه لن يلم بإحداها إلماماً تاماً!

ولعل هذا هو السر في التباين الشاذ الذي تراه في الأدب السوري. فأنت تلقاه في سوريا ساذج التفكير واضح البساطة، وأنت تقرؤه في مصر هادئاً متئداً، وأنت تنظر في أمريكا خيالاً متنقلاً يثب وُثوبَ مجنون! وكادت النهضة تقوم في مصر بالحملة الفرنسية قبل قيامها في سوريا لولا أن أتخذت الحملة مظهراً سياسياً عالمياً طغى على ناصيتها الأدبية، ولولا تعصب عباس الأول ورجعيته، وعبث سعيد باشا وعدم عنايته، ثم لولا الظروف المالية السيئة التي أحاقت بإسماعيل باشا، لكانت النهضة في مصر هادياً ومرشداً لسوريا أولاً وأخيراً.

ولم يكن لإخواننا السوريين أي فضل في تقدم النهضة عندهم، وإنما يرجع ذلك كله إلى جماعات المبشرين ومدارس الإرساليات الدينية التي أنشئت في سوريا إذ ذاك. وقد قلنا إن قومية السوريين – نعني شخصيتهم الأدبية طبعاً – مرنة تتأثر بما يلابسها وتحاول أن تندمج فيه. وهي لا توفق في أكثر الأحيان، يدلك على ذلك الاختلاف الواضح في التفكير والأسلوب وحتى في الموضوعات التي يتناولها السوريون في كل من سوريا ومصر وأمريكا.

ففي الأولى – مثلاً – تتجلى لك صفات الأدب السوري الأصيلة وهي النعومة أو الطراوة بل الاسترخاء – وعذراً إن لم نجد كلمة أخرى تحمل إلى القارىء المعنى الذي نقصده في دقة وتحديد – نقصد الطراوة التي تكاد تسمى أنوثة، وليان الأسلوب، وسذاجة التفكير وإسفافه أحياناً. وهي صفات تلازم السوريين أينما وجدوا، ولكنها تتغير بالبيئة والوسط وتتجلى في مظاهر شتى! فهي في سوريا لا تحتاج إلى تدليل: تلمسها عند أي شاعر أو أديب تعمد إلى آثاره بل وتشهدها واضحة جلية!

أما في مصر فأنت تحسها عند السوريين المستجدين: أقصد حديثي العهد بمصر، أو الذين تغلب عليهم طبيعتهم الأصلية. وقد تؤثر ملابسة البيئة المصرية فتساعدعلى عدم ظهورها عند بعضهم إلى حد ما. وفي أمريكا تسير النعومة والليان في قالب خيالي يهوى بك إلى حيث لا قرار ولا نهاية. وربما كان ذلك نتيجة لتفاعل الأدب الإنجليزي الجاف مع الطبيعة السورية اللينة. وقد يعجب المصريون – والشبان منهم على وجه التخصيص – بأدب جبران وأقرانه، لأن هذه الطراوة والليانة والتفكك في ذلك الخيال المتوثب قد تستطرفها الرجولة الخشنة! وقد يهم القارىء أن يعرف أنني أريد أن استثني من هذه القاعدة ثلاثة من أركان النهضة هم: يعقوب صروف، جورجي زيدان، خليل مطران.

وهؤلاء أقرب السوريين إلى التخلص من هذه الطراوة التي بيناها ويرجع ذلك عند كل منهم إلى أسباب: أما الدكتور صروف فقد كان في مبدأ الأمر – عندما هاجر من سوريا – تتجلى عنده هذه العوامل بشكل بارز يلمسه من يقرأ مجلدات المقتطف الأولى. ولكن طول مدة إقامته في مصر وتأثره بالقومية المصرية ثم اشتغاله بالمسائل العلمية التي اضطرته إلى أن يرجع إلى المؤلفات الأجنبية يدرس فيها الأبحاث العلمية الجافة، كل ذلك ساعد على تخليصه من أسر الليان والطراوة!

ولما أراد جورجي زيدان أن يكتب رواياته المعروفة في التاريخ العربي اضطر أن يلتزم المراجع الأدبية ويتأثر بجفافها وجدّها وخشونتها. ثم أن طول مدة إقامته في مصر واتصاله بالأدباء المصريين كان لهما أكبر الأثر في تركه لهذه الليانة نوعاً.

ويمكنك أن تقول عن خليل مطران إنه مصري أكثر من كونه سورياً لأنه متأثر بالبيئة والشخصية المصرية أكثر من تأثره بالقومية السورية. ثم إن دراسته لشكسبير وغيره من أدباء الإنجليز لها أثر في هجره للطراوة والليان.

ولكنه لما كان شاعراً، وكان الشعر يحتاج إلى بعض الرقة فهو أكثر من زميليه تأثراً بالطبيعة السورية. ومن ثم يعيب البعض على مطران الركة وضعف الأسلوب. ونحن وأن كنا لا نميل إلى إتهام مطران بهذا، إلا أننا نقول إنه لا يسلم في بعض الأوقات من مخلفات سورية وآثارها في شعره. ولعله يأنس من نفسه هذا فيتحرى في نثره أحياناً الأسلوب العربي القح الجزل! وإذا كانت مصر الآن المثال الذي تحتذيه سوريا وغيرها، فقد يكفي هذا للدلالة على أن النهضة المصرية العتيدة تنسخ نهضة سوريا القديمة!

والخلاصة: إن البلاد السورية بطبيعتها رافهة ناعمة، وأهلها قوم وادعون وإن كانوا غالباً ضعاف القومية.. وجاءت الشخصية الفرنسية تناسب المزاج السوري ففنيت فيها قوميتهم. وقد أصبح الأدب الفرنسي الآن أفقر الآداب العالمية بعد انصراف رجاله في الأزمنة الأخيرة إلى ناحية واحدة فحسب هي الناحية الليريكية، أي ما يتناول نظم الوجدان والغناء. ولا يخرج محور الأدب الفرنسي الآن عن دائرة العبث والمجون. أما الملاحم الشعرية المجدية، وأما الشعر التهذيبي والشعر الإنساني وشعر القصص العالي فيكاد يحتضر في الأدب الفرنسي، هذا إن لم تقم ثورة فكرية أخرى تغير مرامي هذا العبث وتدعو إلى استئناف تشييد الصرح الذي تعب فيه هيجو ورستان واندادهما من أدباء الدرامات الخالدة.

وتعساً للأدب السوري إن ظل مستمسكاً بهذا المنهل الفرنسي الماجن، ولم يبحث عن ملهم آخر أكثر رجولة وأبعد عن الطراوة والليان. فلعل هذا الإصلاح المأمول يتم بجهود النابغين من أدباء سوريا الناجبين.