1

إهتراء المؤسسات-نجيب نصير

نجيب نصير

 

بداية لا بد من الاعتراف بوجود مشكلة بين “العقل العربي” وبين المفهوم المعرفي كمفهوم معرفي  صرف، فهذا ” العقل” لم يركن للمفهوم ويطمئن له، ولم يتصالح معه، ولم يخضعه للشك بالمعنى المعرفي، بل للريبة والحذر والاشتراط، لدرجة أن هناك الكثير من الآراء تقول بفشل المفهوم وممارساته المعرفية عند أهله وواضعيه، فما بالنا إذا أخذنا نحن المختلفون عنهم به! ولكن ومن جهة أخرى تبدو الثقافات “العربية” مضطرة، على الأخذ بالمنتجات التطبيقية للمفاهيم على الرغم من قرفها من هذا الاضطرار الذي على ما يبدو أثر سلبا على النظرة الى التطبيقات المعرفية للمفهوم، ومنها مفهوم المؤسسات.

تهترئ المؤسسات كما كل التكنلوجيات الموضوعة في الاستعمال، وهذا أمر غير مغفل عند ممارسي التطبيقات المعرفية لمفهوم المؤسسات، فصيانة المؤسسة هو جزء لا يتجزأ من وجودها، وعادة ما تصان المؤسسات، بالمحاسبة على الأداء والنتائج، بما أنها تأسست لغاية أو إنجاز ما، بواسطة ممارسات تعاقدية واضحة، محددة، وعلنية، أو ما يمكن تسميته نظاما تأسيسيا، أو دستورا، ينتج عنه قوانين وإرشادات تضبط إيقاع الفعل الإنجازي، محافظة على سيره في السكة الصحيحة، إلى الوجهة الصحيحة، وهذا ما فشلت فيه المؤسسة “العربية”، حيث تضعنا نتائجها أمام تعريفات لها هي من خارج مفهوم المؤسسات نفسه، أو علينا الاعتراف أن ملكاتنا المعرفية لا تحتمل هكذا جرعات من التدبر الإنساني لتنظيم العلاقة بالدنيا، وهما أمران يعنيان الهزيمة بكل معانيها المتوفرة، وهو أمر لا بد من الاعتراف به كبداية لأي مشروع مأمول يستهدف تسديد أية حاجة إنسانية عن طريق المعرفة البشرية .

هنا لا يبدو السؤال العمومي (لماذا هم تقدموا ونحن تخلفنا؟) بريئا على الرغم سذاجته، كما أنه لا يبدو ذكيا على الرغم من إطلاع أصحابه على المعلومات، فالمسألة هنا تتجاوز الجماعية القطيعية القادرة فيزيائيا على هدّ الجبال، بل الى جماعية نوعية قادرة على التكامل بالاختصاص والقادرة على وعي المصلحة المشتركة الناتجة عن هذا التكامل، وعليه يبدو تبني مفهوم المؤسسة ليس خياراً خيرياً يسدد الحاجة اليه بمجرد تأسيسه ووجوده، بل هو ضرورة معرفية تكنولوجية، للقيام بالأشياء الضرورية للعيش، من هنا يظهر أن تبني القيم الأنوارية ليس كافياً للزعم بممارسة المفاهيم المعرفية أو تطبيقاتها، فرادى أو في مجموعات متراتلة، فالموضوع هنا هو التفاعل العضوي مع المفهوم والمشاركة في عمليات صيانته وارتقاءاته . فالتقدم والتخلف منسوبان دائما الى أنموذج معاير، وما موقعنا المتخلف الذي أشار اليه المفكرون بسؤالهم الآنف، إلا ارتجال هذياني عن الأحوال المتردية في تدبير أمور العيش ليس إلا، فالتقدم بالمعنى الإنساني هو إما اجتراح مفاهيم معرفية جديدة تواجه بها معضلات الفهم والعيش، أو تتبنى مفاهيم جاهزة ومجربة تواجه هذه المعضلات، وهذا ما أوقع مفهوم المؤسسات في مصيدة “العقل” غير المقتنع بوجود المفهوم نفسه أساسا، وبالتالي التلاعب بتطبيقاته حسب مقتضيات الثقافة التي أنتهجها هذا العقل كخلفية ودافع للسلوك والممارسة .

أولى تلك الممارسات المقوضة، هي تلك القراءة التكييفية للدستور أو للأنظمة التأسيسية للمؤسسة، فتكييف الدساتير في المؤسسات هو الحجر الأساس في ممارسات التقويض، فالقوانين والممارسات الناتجة عن تلك القراءة الخصوصية، هي قوانين وإجراءات مجحفة بالضرورة، لآنها تقود الى إنجاز أمور على حساب الأمور الأخرى، بحيث تسقط أهداف هي من صلب وجود المؤسسة وأهدافها لحساب أهداف أخرى بغض النظرة إذا كانت ضرورية أم لا، فالمسار المؤسسي هو مسار نسقي بالضرورة، يحقق غاياته على قدم المساواة، وليس مسارا رتليا يقدم غاية ويؤخر أخرى متذرعا بالتكتيك تارة والظروف تارات، فالمؤسسة بنيان متكامل، وأهدافه متكاملة، ويقوضها ويقوض إنجازتها ذلك التقدم الرتلي الذي يحول الإنجازات الى احتفالات تخديرية، تحتفي بولادات ليس لها حظ في الحياة.

أولى منتجات القراءة التكييفية للدساتير التأسيسية، هو الفساد، فلطالما نجحت القراءة “العربية” للدساتير بالتواصل مع مصالح القراء الشخصية، لتصبح هذه القراءة قراء ترويضية تحتمي بالدستور نفسه، وترمي مخالفيها بالكفر والمروق، بواسطة مقدرات وأدوات المؤسسة ذاتها، والمشكلة هنا ليس بالصراع بين طرفين، طرف محق وطرف يعتبر نفسه محقاً حسب قراءته للدستور، المشكلة أن الصراع نفسه هو مقوض للمؤسسة، ومبدد ٌلإمكانياتها، وبذلك لا يكون الفساد إلا إعلان عن انهيار المؤسسة على الرغم من المحافظة على هيكلها الخارجي، ومع تقادم الفساد يزداد الاهتمام بتزيين الهيكل الخاوي من كل معنى، كما تزداد رفعة الفاسدين وتوهجهم لتنقلب المعايير الاجتماعية كتمثل أخير للخواء.

ثاني منتجات هاتيك القراءة، هو التسبب بمشاكل وهمية أو حقيقية للمؤسسة صغيرة أو كبيرة، وهذا أمر عادي بالنسبة للمؤسسات العفية، ولكنه يؤدي الى التراكم والتضخم في حالات المؤسسات ذات الدساتير المكيفة ( لم تعد القراءة وحدها بل الممارسة أيضا)، هذه التراكم هو في حقيقته فعل إزالة للمؤسسة من جذورها، فالمؤسسة وعلى الأقل يجب أن يكون ميزان تقييمها رابحا، بمعنى أن إيجابياتها أكثر من سلبياتها، حيث يقوم هذا التراكم بالاصطفاف الى جانب السلبيات المحدثة والمستقبلية، لتنعكس وجهة المؤسسة تماما، وتدب الفوضى بين أعضائها عبر تداول السلبيات كموضوع عضوي تستمر عليه المؤسسة، على الرغم من خوائها الفعلي من الممارسات البنائية التي توصلها الى أهدافها، حيث يبدو إصلاح هكذا مؤسسات يبدأ من تحت الصفر بكثير، لدرجة أن تكلفة الإصلاح أغلى بكثير من تكلفة الهدم، بالإضافة الى التزود بجرعة كاملة من اليأس تسقط إمكانية البناء من جديد .

تتميز المؤسسات ذات الدساتير المكيفة بممارسات تجعل من توجهاتها المستقبلية منحرفة عن غاياتها بالضرورة، وهو أمر خطير، فأعضاء هكذا مؤسسات يقضون عمرهم في العطاء لتصب مجهوداتهم في النهاية لصالح غاية لا يرضون عنها، أو ليسوا متعاقدين عليها، وهذا أمر يتعاكس مع المفهوم المؤسس، إذ أنه يتم إلغاء كافة إمكانيات صيانة المؤسسة، لآنها غير دستورية حسب القراءة التكييفية، فما ينفع الحاكم بأمره يعني تماما ما ينفعها!!!، أوليس الحاكم بأمره جزء منها ؟ يزول بزوالها هي؟ (وليس هو بالطبع)، لذلك تبدو هاتيك المؤسسات بعد برهة من الزمان في غير مكانها بعد أن خففت القراءة التكييفية من أحمالها واضعة سلم خاص للأولويات الرتلية تزيحها بحكم الواقع عن مكانها ومكانتها .

نعم الدساتير تهترىء بحكم الاستخدام والإنتاج والإنجاز، ليبنى فوقها ومن منتجاتها تطويرات ضرورية لما بعد الإنجاز، ولكن على أية إنجازات نتكلم في واقع “المؤسسة العربية”؟

في الحقيقة التي لا يوجد غيرها على أرض الواقع، يبدو منجز “المؤسسة” “العربية” محصورا، بالعنف وتنويعاته ومنتجاته، التي تتطابق في القراءة التكييفية، مع مفهوم (إحتكار العنف)، والاحتكار في الأساس التعاقدي، إحتكار مرشّد ومقنّن، معاير وعلاني في المؤسسات العفية، ليتحول الى عنف مافيوي في المؤسسات ذات الدساتير المكيفة، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام تكرار نفس الأخطاء بحماية دستورية واهية ومفروضة بسبب إحتكار العنف، وهنا لا تبدو المؤسسات مهترئة فحسب، بل هي في مرحلة التعفن الوقح، أي التعفن العلاني الذي لا راد لظلمه، عبر سيطرته على أدوات العدالة ووسائلها، وهنا يظهر اليأس من جدوى “المؤسسة”، وانقسام أعضائها الى نوعين: مستفيد يعيش واقعاً تخريبيا يرضى عنه ويبرره مؤسساتيا، ونوع ثاني حالم ومهزوم ومخوّن وعرضة للمحاسبة من محتكري العنف “المؤسساتي”. ليبدو كل جهد مبذول في إصلاح “المؤسسة” هو جهد جزافي لا طائل منه، “فالمؤسسات” ذات الدساتير مكيفة القراءة، تحتاج الى عدو يسهل هزمه يوفر لها ما يسمى إدارة الأزمة، هذا ما يوفره هؤلاء الحالمون، ما يؤهل رسوخ “المؤسسة” التي تجاوزت الإهتراء الى التعفن واستمرارها في استثماراتها المافيوزية  عبر ما يمكن تشبيهه لجدالات المولاة والمعارضة الضرورية عضويا لوجود “مؤسسة” ما، وهو ما تحافظ عليه تلك “المؤسسات” في حدود الأمان، وإلا لجأت القمع والاغتيال في حال خرجت هذه المعارضة عن دورها الداعم، وهو ما يفسر دعوة هذه ” المؤسسات” للمعارضين الى همروجة الإصلاح من الداخل، بمعنى المشاركة في المسؤولية عن مسيرة الفشل، وهنا تماما تفقد “المؤسسة” قدرتها على الإصلاح، فالإصلاح إذا حصل أو بدأ، تفقد هذه ” المؤسسة” مقومات بقائها، لينشأ عن هذه الثنائية الجدلية صراع بقاء، وهو صراح يستباح فيه كل شيء، ويأكل الأخضر واليابس، تحت شعار الشرعية الدستورية التي يستطيل فيها  وحولها النقاش البيزنطي على قراءتها إلى الأبد، أو يستعان بالقراءة التكيفية حول “احتكار العنف” التي يتم عبرها القضاء فيزيائيا على كل أصحاب القراءات المخالفة .

المؤسسة في كنهها، مفهوم أنواري حداثي علماني، فهل تليق بالمتخلفين ؟ إنه سؤال محوري وتأسيسي، واللياقة هنا ليست توصيفاً عنصرياً شتائمياً، بل هو سؤال في الأهلية المعرفية ( والتي تتضمن الأخلاقية ) القادرة على تحمل المسؤولية، التي تعني حصرا المراقبة والمحاسبة للجميع على قدم المساواة؟ فهل توفرت لدى “المؤسسة” ” العربية” هذه الأهلية ؟ بغض النظر إذا كانت هذه ” المؤسسة  “دولة ” أو “حزب” أو مجرد “جمعية تعاونية”؟!!هذه “المؤسسة” المشهورة برفضها للمفهوم نفسه كإنجاز تنويري حداثي علماني، قبل رفضها لشكل المؤسسة ومضمونها، حيث يبدو إستعمال المؤسسة المكيفة دستوريا كتعبير عن هذا الرفض، وبالتالي صياغة وممارسة “مؤسسة” مهترئة سلفا ولكنها قابلة للإستمرار ولو متعفنة، بواسطة القراءة التكييفية واحتكار العنف . وعلى هاتين  القاعدتين يمكن تبرير كل شيء، إنطلاقاً من الفساد وانتهاء بالخيانة، وما بينهما من فشل في الإنجاز.

وحدهم المتخلفون والمنحطون إنسانيا، لا يستطيعون التفاعل مع مؤسسات عفية، وحدهم لا يستطيعون قراءة دساتير مؤسساتهم قراءة معرفية، ووحدهم لا يستطيعون تحمل المسؤولية إلا بوضعهم الشروط على استحقاقات الواجب، وهم وحدهم الذين لا يحترمون العمل ولا الحياة الإنسانية، ووحدهم أيضا لا يعرفون للكرامة الإنسانية دورا أو ضرورة، لانهم لا يرون فيها ركناً مؤسساً لعمليات الإنجاز الارتقائية المطلوبة من وجود المؤسسة .