1

إقرأوا سعاده جيداً


بعض القوميين لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يتمعنون. أن أفظع ما يتعرض له الفلاسفة من ظلم يأتي من تلامذتهم وأتباعهم قبل أن يأتي من خصومهم. ونقصد بذلك عندما “يتقوّل” هؤلاء التلاميذ بما لم يدرسوه جيداً ولم يدركوا قيمته الفلسفية، فيقرأون الفلسفة كما لو أنهم يقرأون قصّة أو خبرية. يقرأون القول الفلسفي بخفّة واستسهال منتزعينه من سياقه وموضوعه دون قراءة ما قبله وما بعده ودون قياسه وفهمه على ضوء المبادئ الأساسية للفيلسوف صاحب القول.

نحن نعرف أن الفلاسفة يصيغون أفكارهم بكلمات قليلة، أحياناً كلمة واحدة أو كلمتين، وفي الأكثر جملة أو جملتين، مثل المدرحية، ومثل الإنسان المجتمع ومثل الدين للإنسان وليس الإنسان للدين، أو اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض، ومثل الحرية صراع والحق أنتصار، ومثل المجتمع معرفة والمعرفة قوة، ومثل التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة.

الأفكار الفلسفية الجديدة هي دائماً عرضة لسوء الفهم والتأويل لأننا عندما نتلقى لأول مرة قولاً جديداً يحمل فكرة جديدة، خاصةً في موضوع الفلسفة، فإننا نتلقاه “بوعينا القديم” ونفهمه بواسطة ما في عقلنا من مفاهيم قديمة، أي بواسطة جهاز المفاهيم القديم الذي تعوّدنا عليه.

فطبيعي أن يحدث في البداية سوء فهم أو إلتباس أو تأويل يصرّ على جذب هذه الأفكار الفلسفية الجديدة صوب الأفكار القديمة الراسخة في الذهن التي تجيء الأفكار الجديدة لتغيرها وتبدّلها. وطبيعي أن تأخذ الأفكار- الفلسفات الجديدة منّا وقتاً كافياً لإستيعابها وفهمها وإدراك أبعادها وحقيقة ما تعنيه، أو ما تريد أن تعنيه لنا وتريد أن تغيّره في نظرنا الى الحياة.

لكن ما ليس طبيعياً وما ليس مقبولاً هو أن تأخذ نظرة سعاده الجديدة إلى الحياة، وإلى الديمقراطية بشكل خاص، أكثر من ثمانين سنة قبل أن “ينتبه” أتباعها أنفسهم إليها وإلى جديدها وإلى معناها الحقيقي وأهميتها العظيمة.

إن للفلاسفة لغتهم وطريقتهم في التعبير عن أفكارهم، ولا يمكن أن نطلب من الفلاسفة أن يعلمونا لغتهم ويترجمونها لنا بلغتنا، إن هذا غير ممكن. وإذا كنا نصر على تأويلهم على طريقتنا وبلغتنا العاديّة وأبعادها المحدودةً، لأننا نحن بشر عاديون ولسنا فلاسفة، فإننا حتماً سنقع في الالتباس ونكون سذّجاً وسطحيين.

رغم ذلك، فأن لغة الفلاسفة ومعاني أفكارهم ليست ولا يجب أن تكون طلاسم وأحاجي، بل معبِّرة تعبيراً يمكن فهمه. ولفهم الفيلسوف وفهم عباراته وأفكاره يجب علينا أن نقرأه كله، أي أن نقرأ كل أقواله وندرسه جيداً ونقرأه كثيراً ونتتبع عباراته أينما قيلت على لسانه أو كُتِبت بقلمه، حتى نفهم ما يريد أن يقوله لنا ويعلمنا إياه.

وهذا ما حصل ويحصل لفكرة “التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة” التي قال بها سعاده في موضوع الديموقراطية وقال إنها “الانقلاب الجديد الذي تجيء به الفلسفة القومية الاجتماعية” (نسر الزعامة ووحول توكومان)، وأنها “الإكتشاف السوري الجديد الذي ستسير البشرية بموجبه فيما بعد” (خطاب سانتياغو).

الذي حصل هو أننا لم نفهم بسهولة المعنى الفلسفي لقضية التعبير عن الإرادة العامة بدل تمثيل الإرادة العامة. لم نفهم الفرق الحاسم بين التعبير والتمثيل فيما خصّ الإرادة العامة. لم نفهم الجديد فلسفياً في معنى كلمة التعبير، عندما تكون مقرونة بالإرادة، وبقينا نشدّها الى المعنى القديم الراسخ في الذهن، أي المعنى اللغوي الادبي الذي تعودنا عليه، وهو حسن استعمال العِبارة والكلام الحسن والشرح الجيد للآراء والافكار، كأن يحسن أحدنا التعبير عن نفسه ورأيه أو مطالبه. لقد خلطنا معنيي التعبير عن الرأي والتعبير عن الإرادة وابتعدنا كثيراً عن الفكرة الفلسفية الجديدة. فالتعبير عن الإرادة هو شيء مختلف كثيراً عن التعبير عن الرأي وعن الفكر. إنه شيء يتعلق بالمصالح وتحقيقها وتأمينها أكثر مما يتعلق بالأفكار وشرحها. فالإرادة هي بنت المصلحة ولا إرادة دون مصلحة.

ولفهم معنى “التعبير عن الإرادة العامة”، يجدر بنا الرجوع الى كتاب نشوء الأمم وفهم معنى الإرادة وعلاقتها بالمصلحة وفهم كيف أن المصلحة هي وراء كل إرادة وكيف أن الإرادة هي لتأمين ولتحقيق مصلحة. سعاده يقول في ذلك ما يلي:

“وما الإرادة إلا التعبير عن الحياة، نحن نريد مصالحنا لأننا نريد حياتنا والإرادة على قدر المصلحة”.

“المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدهما سلبي وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة. فالمصلحة هي التي تقرر العلاقات جميعها والإرادة هي التي تحققها“. “وبديهي أنه لا إرادة حيث لا مصلحة، فحين يجوع الإنسان يريد أن يأكل وحين يعطش يريد أن يشرب وحين يشتاق يريد أن يحب. فالمصلحة هي طلب حصول إرتياح النفس وتحقيق ارتياح النفس هو غرض الإرادة.” (نشوء الأمم، الفصل الأخير)

هكذا يكون التعبير عن الإرادة معناه تنفيذها وتحقيق المصلحة التي كانت وراءها.

هكذا يصير التعبير عن الإرادة العامة يعني معرفة الإرادة العامة ثم تنفيذها وتحقيقها، “إعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”… “لجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة”. (سانتياغو)

أمّا تمثيل الإرادة العامة فهو مجرد رسم صورة عنها ونقلها من المجتمع الى الدولة، أي وضعها أمام السلطة في الدولة، هو تمثيلها بأمانة ووضوح ولكن هو الإكتفاء بذلك دون القدرة على فعل شيء وتغيير شيء وتحقيق شيء وتنفيذ شيء من هذه الإرادة. وهكذا يكون تمثيل الإرادة العامة هو شيء جامد يتعلّق بما حصل، أي بوصف هذه الإرادة كما هي دون شرط توفر الإمكانات والقوى و”وسائل التنفيذ الموافقة” التي تحقق هذه الإرادة وتجعلها نافذة.

وسعاده قد أفصح عن هذا المعنى، وعن الفرق بين تمثيل الإرادة العامة والتعبير عنها، في جملة قصيرة لكن واضحة كثيراً وهي:

“التمثيل أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد“. هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري أن يصلحه: تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”. (سانتياغو سنة 1940)

سعاده لم يكن لديه الوقت ليشرح لكم أكثر من ذلك، وعليكم أنتم أن تحسنوا القراءة وتلتقطوا الفكرة.

عليكم أنتم أن تكتشفوا التفاصيل وتدركوا أن الفرق الحاسم بين تمثيل الإرادة العامة والتعبير عنها هو كالفرق بين “الجمود” و “الإنشاء”. هو في القوة المحرِّكة المفقودة في الأول والموجودة في الثاني. وعليكم أنتم أن تفهموا وتدركوا أن هذه القوة التي سمّاها سعاده “وسائل التنفيذ الموافقة” هي قوة “المواهب والمؤهلات” القادرة على “تكييف حياتنا الجديدة” حسب ما ذكره في الخطاب المنهاجي الأول سنة 1935.

وسعاده قد أعاد عليكم ذكر صفة الجمود والشلل الذي يميِّز تمثيل الإرادة العامة عندما قال:

إن الديمقراطية الحاضرة قد إستغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الإنقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة القومية الإجتماعية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة، الذي هو شكل ظاهري جامد“. (نفس المصدر).

لكنكم أنتم لم تلتقطوا الفكرة وبقيتم تشدّون بسعاده صوبكم وصوب افكاركم أنتم، ولم تفهموا عليه بل أصرّيتم على أفكاركم أنتم وقلتم إن تمثيل الإرادة العامة ما هو إلا الانتخابات، فساويتم بين معنى تمثيل الإرادة العامة ومعنى الإنتخابات، وصرتم تعارضون الإنتخابات وظننتم أنكم بمعارضة الانتخابات تكونون تعارضون تمثيل الإرادة العامة وترضون سعاده. لكنكم على ضلال كبير، فسعاده بريء من تأويلكم السطحي الساذج الغريب، فسعاده ليس ضد الانتخابات بل معها وقد مارسها واعتمدها في لجان المديريات والمجلس الأعلى وغيرها من المسائل والأماكن. غريب هذا “الرهاب” والخوف من الانتخابات! إذا كنتم تخافون من وصول غير المؤهلين الى السلطة فخوفكم مفهوم ومبرر، لكن ليست الانتخابات هي المسؤولة عن وصول غير المؤهلين. الانتخابات هي فقط لإنتقاء عدد قليل من المؤهلين من بين عدد كبير منهم، وليست لتعيين من منهم مؤهل ومن منهم غير مؤهل. إنها لمعرفة مَن مِن المؤهلين هو الأكثر تأييداً وقبولاً من الشعب ومن هو الأكثر حيازة لثقة الشعب عملاً بمبدأ الديمقراطية القومية الذي قال به سعاده، فالقومية والديمقراطية مبدآن متجانسان.

إلتباس آخر وقعتم فيه، وهو الخلط بين معنيي تمثيل الإرادة العامة والتمثيل السياسي. في هذه المسالة أيضاً لم تلتقطوا الفكرة الصحيحة وبقيتم تشدّون بسعاده صوبكم وصوب أفكاركم أنتم ولم تفهموا عليه بل أصرّيتم على أفكاركم أنتم وخلطتم بين معنى تمثيل الإرادة العامة ومعنى التمثيل السياسي وساويتم بينهما. لكنكم على ضلال كبير، فسعاده هو بريء من تأويلكم السطحي الساذج الغريب، فسعاده هو ضد تمثيل الإرادة العامة وليس ضد التمثيل السياسي، والفرق شاسع وكبير بينهما. فالتمثيل السياسي هو تمثيل الإتجاهات السياسية الموجودة في المجتمع، في الدولة، هو تمثيل الإرادات الخاصة بالأحزاب السياسية وليس تمثيل الإرادة العامة للشعب كله. التمثيل السياسي هو حق لم يعارضه سعاده، فسعاده هو مع الحرية حيث الحرية هي صراع المباديء والأفكار وليس مع القمع والطغيان.

ومن أدرك منكم أن سعاده هو مع حرية التمثيل السياسي وليس ضده، ظن أن سعاده يقول بالديمقراطية التمثيلية، ذلك لأنكم أنتم أسأتم فهم سعاده فساويتم بين مبدأ التمثيل السياسي ومبدأ تمثيل الإرادة العامة، رغم أنهما مبدآن مختلفان كثيراً. وهذه المساواة الخاطئة أدّت بكم للقول: بما أن سعاده ليس ضد التمثيل السياسي فهو ليس ضد تمثيل الإرادة العامة أي ليس ضد الديمقراطية التمثيلية، فرميتم سعاده بالتناقض وكأنه يقول بالشيء وضده في نفس الوقت.

  1. إقرأوا سعاده جيداً ولا تخلطوا بين التمثيل السياسي من جهة والديمقراطية التمثيلية التي هي تمثيل الإراده العامة تمثيلاً، بدل التعبير عنها تعبيراً، من جهة أخرى.

الانتخابات تعني تمثيلاً سياسياً في حالة واحدة فقط هي وجود إتجاهات وأحزاب سياسية في الهيئة الناخبة. أما في هيئة ناخبة موحّدة العقيدة والقضية والغاية، فالانتخابات ليست للتمثيل السياسي بل لتقرير من يحوز على تأييد أكثر وثقة أكبر لدى الشعب. في الحزب يوجد وحدة روح ووحدة قضية ووحدة غاية ولا يوجد فئات و”أحزاب” متباينة الأفكار والعقيدة والغاية. فعندما ينتخب المجلس الأعلى رئيساً للحزب يكون الانتخاب سرياً، والرئيس لا يعرف من انتخبه ومن لم ينتخبه، والرئيس لا يمثل الذين انتخبوه، وهم لم ينتخبوه ليمثلهم ويمثل مصالحهم بل انتخبوه وأيدوه لأنهم رأوا فيه الأقدر والأكثر أهلية للعمل وتنفيذ الإرادة العامة الموجودة تحديداً في غاية الحزب.

  1. إقرأوا سعاده جيداً ولا تخلطوا بين الانتخابات وبين الديمقراطية التمثيلية، فترفضون الانتخابات ظناً منكم أنكم بذلك ترفضون الديمقراطية التمثيلية، أي تمثيل الإرادة العامة تمثيلاً بدل التعبير عنها تعبيراً.

فالانتخابات تعني تمثيل الإرادة العامة تمثيلاً في حالة واحدة فقط هي عندما يكون المرشحون لا يتمتعون بالمؤهلات التي تمكنهم من التعبير عن الإرادة العامة تعبيراً بدلاً من تمثيلها تمثيلاً. أما عندما يتمتع المرشحون بهذه المؤهلات وهذه “الصفات الممتازة” حسب تعبير سعاده، فالانتخابات هي “لإنتقاء” الحائزين على أكبر تأييد وثقة من بين مجموع كله مؤهل، وليس لتقرير من هو المؤهل ومن هو غير المؤهل.